المسيرات الجماهيرية العفوية الغفيرة التي انطلقت في اغلب محافظات العراق الحبيب، ومن ثم تلك التي لحقتها والمتوجهة صوب مدينة النجف الاشرف، والتي كانت تحمل شعارات التأييد والولاء والنصرة للحوزة العلمية الشريفة ولرموزها المُجاهدين، بوجه الهجمة الشرسة التي شُنـَّت في الآونة الأخيرة من قبل بعض الأحزاب وقياداتها، كانت تمثل الضربة النوعية لكل تخرّص وتربّص تقوم به بعض المؤسسات السياسية والدوائر المُرتبطة بأجندات خارجية معروفة، والتي كانت غايتها تصغير وتحجيم حجم المؤسسة الدينية ورجالاتها في مُقابل تقوية أحزابهم وأشخاصهم.
ولأنَّ مُثيري الفتن ومُطلقي الإشاعات يدركون جيداً ان الجهة الوحيدة التي باستطاعتها الوقوف بحزم مقابل أفعالهم الخاطئة ومفاسدهم، هي الحوزة وقياداتها، سعوا حينها جاهدين الى تكسير أجنحة هذه المؤسسة، ومن ثم التقليل من شانها ومكانتها، ولكن بشكل هادئ وغير انفعالي، وبعيداً عن ضوء الشمس.
وهذا المفهوم - تصغير الحوزة وقياداتها -، هو ليس بالجديد والغريب على أمثال هؤلاء، بل هو مبدأ آمنوا به، وأسّسوا له أيام كانوا في المنفى، ولم يكتفوا بفكرتهم عند هذه الحدود، بل تعدّوها الى ما هو اخطر من ذلك، وهي قضية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف، إذ انك ترى غياب هذه القضية، بل حتى اسم هذه الشخصية عن أدبيّاتهم وثقافتهم ونهجهم، وليسأل قراء هذه الأسطر بعد فراغهم منها، أي قيادي يختارونه من تلك القيادات المؤمنة بهذه الفكرة عن حقيقة ما ادّعيته وكتبته، وليسمعوا الجواب بشكل واضح وصريح من أفواه أولئك القائلين بها والمروّجين لها.
وفي الجانب الآخر المُعاكس، فقد عمدوا الى استغلال اسم الحوزة والمرجعية لمصالحهم الخاصة، أي بمعنى آخر، هم حين دخلوا المُعترك السياسي بشكل صريح في داخل العراق، احتاجوا الى دعم الجماهير، وكونهم يعلمون جيداً ان الأغلبية الشيعية في العراق تنقاد عقائدياً وفطرياً صوب الحوزة، أسّسوا لمفهوم جديد بعد العام ٢٠٠٣، أي بعد احتلال العراق، أكدوا فيه للناس ان أحزابهم وقادتهم هم رجال المرجعية، وهم رهن إشارتها، فزيّنوا مُلصقاتهم الانتخابية بصور المرجعية، وجمّلوا خطاباتهم بذكر أسماء البعض من زعاماتها، ليؤكدوا بتلك الترويجات للناس حقيقة ما يعلنون عنه من دعم المرجعية لهم ولأحزابهم، مُستغلين كما أشرت قبل قليل مشاعر الناس وتوجههم العقائدي والفطري وحبهم وطاعتهم للحوزة العلمية.
وما إنْ وقفت الحوزة بوجههم في السنوات الأخيرة، وأعلنت سراً وجهاراً انتقادها لتصرفاتهم ومواقفهم، وأغلقت الأبواب بوجههم، ورفضت بشكل قطعي استقبال وفودهم، سارعوا الى اللعب على الوتر الآخر، الذي يقترب أيضاً من عواطف الجماهير، فبدأوا يعزفون على أنغام الطائفية تارة والقومية تارة أخرى، حسبما تقتضيه المصلحة والحاجة وقتها، فيقومون باختلاق الأزمات وافتعالها والترويج لها في الزمان والمكان المُناسبين، وعلى وجه التحديد حين تقع هذه الأحزاب وقياداتها في مشاكل مع مواطنيها وجمهورها، فيسعون الى شد أنظار الناس عن هذه المشاكل، ليحركوا في دواخلهم النزعات المذهبية والقومية والعرقية، من خلال إشاعة مبدأ التخويف بعودة الماضي السابق الذي كان يسيطر عليه البعث الشوفيني العفلقي وأزلامه.
اما في حال تصادم توجهاتهم مع بعض الأحزاب والقوى الشيعية، فهم بشكل عاجل ومن دون تأخير يقومون ببث الإشاعات الجاهزة المركونة على رفوف القذف والتشهير للخصوم، من خلال اتهام إخوتهم بالعمل لأجندات إقليمية وخليجية غايتها تهديم الحكم الشيعي، وسحب البساط منه، ومن ثم السعي الى سيطرة العرب السنة على الحكم من جديد، وهي شمّاعة كم أصبحت قديمة ومُستهلكة، إلا ان البعض لازال يؤمن بها مع شديد الأسف، ولله في خلقه شؤون.
الى آخره من الادعاءات والتقولات والإشاعات التي ما انفكّ عنها شارعنا يوماً ما، حتى أصبحت حديث أهلنا وأصدقائنا، وملح زادهم في داخل البيوت وخارجها، وفي وسائل النقل المختلفة والدوائر، بل حتى مراقد المعصومين عليهم السلام لم تسلم من هذه النقاشات العقيمة.
ومن كل ما ذكرته هنا وباختصار، وددتُ الوقوف في نهاية هذه الأسطر، لأخبر المُراهنين على إضعاف الحوزة وقياداتها المجاهدة، واكرر ما قلته لهم قبل أيام في مقال سابق نشر تحت عنوان (ما زاد حنون في الإسلام خردلة)، والذي أشرت فيه، من ان الجماهير كانت عند عهدها الذي قطعته سابقاً، وأثبتت لكل المراهنين بأنها لازالت واقفة وبقوة خلف قيادتها، ولن تتزحزح أو تتخلخل، وما سيحصل هو العكس تماماً لِما كان مُخطّطاً له، وفعلاً، فقد رأينا الشارع التهب واشتعل حُباً وتأييداً لقيادته، وفي الأعمّ الأغلب من محافظات العراق الحبيب، وبشكل سريع وعفوي.
وهي رسالة أظنها بسيطة المعنى وواضحة جداً لا تحتاج الى تفسير أو تأويل، واعتقد انها وصلت وبأمانة، وقد كان ألطف وأجمل ما فيها، انها مُختصرة جداً بمضمونها (نحن قول وفعل).
جليل النوري
يوم الاثنين الموافق للثالث من شهر صفر الخير للعام ١٤٣٤