والعنف مدان في الثقافة الإسلامية الأصيلة قرآنا وسنة وممارسة نبوية، فقد أمرنا القرآن بالجدال في أثبات الحق بالتي هي أحسن، لا بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة، وترك للفرد حرية اختيار الدين (لا إكراه في الدين)، وأحاديث الرسول {ص}التي تدعو الى الرفق ونبذ العنف تملئ كتب الفريقين، ففي مسند الإمام أحمد بن حنبل ج١ ص١١٣: ((إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف))، وفي سنن الدارمي ج٣ ص٣٢٣ : ((إن الله يحب الرفق في الأمر كله)) أي في كل الأمور، والحديث مروي عن السيدة عائشة، وتجلى الرفق بوضوح في سيرة النبي (ص) في الكثير من المواقف، فقد روى الإمام أحمد عن الأسود بن سريع، قال: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بأسير، فقال: اللهم إني أتوب إليك، ولا أتوب إلى محمد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عرف الحق لأهله)) وروى عنه أيضا: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية يوم حنين فقاتلوا المشركين فافضى بهم القتل إلى الذرية، فلما جاؤوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله، إنما كانوا أولاد المشركين! قال: أو هل خياركم ألا أولاد المشركين، والذي نفس محمد بيده ما من نسمة تولد إلا على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها)) وروى أيضا، قال: ((وغزوت معه فأصبت ظهرا (فرسا) فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الولدان وقال مرة الذرية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية؟ فقال: رجل يا رسول الله إنما هم أولاد المشركين فقال: ألا إن خياركم أبناء المشركين. ثم قال: ألا لا تقتلوا ذرية، ألا لا تقتلوا ذرية))، يقصد الأطفال.
إلا أن كتاب التاريخ والسير مجدوا العنف والقتل، ووصفوا القتلة والمجرمين بأجمل الأوصاف، وعبروا عنهم بالقادة المحنكين، وأنهم أبطال الحروب، وبناة أمجاد الأمة، فهذا خالد بن الوليد مثلا والذي طفحت كتب التاريخ بجرائمه البشعة، وأعماله الغادرة يوصف بسيف الله المسلول، ونسبوا بذلك حديثا الى النبي (ص)، قال النسائي في فضائل الصحابة ص١٨: ((...ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد ولم يكن من الأمراء فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ضبعيه، وقال: اللهم هذا سيف من سيوفك فانتصر به. فيومئذ سمي خالد سيف الله))، وقال الزركلي في الأعلام: ((خالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي: سيف الله، الفاتح الكبير، الصحابي. كان من أشراف قريش في الجاهلية، يلي أعنة الخيل))، وفي الإصابة: ((وأرسله أبو بكر إلى قتال أهل الردة، فأبلى في قتالهم بلاء عظيما، ثم ولاه حرب فارس والروم فأثر فيهم تأثيرا شديدا، وفتح دمشق))، الى غير ذلك من الأوصاف والألقاب وكيل المدائح، ولم ينكر كتاب السلطة والمتزلفون للحكام جرائم هذا الرجل البشعة، ولا ذكروا في تراجمهم له مدى غلظته وقسوته، وسفكه لدماء الآلاف من دون ذنب واضح، يقول ابن خلدون في تاريخه متحدثا عن خالد ودوره فيما سمي بحروب الردة ج٢ ق٢ ص٧١: ((أوقع خالد ببني أسد وغطفان وكانت هوازن وسليم وعامر ينتظرون أمرهم، فجاؤوا إلى خالد وأسلموا وقبل منهم الإسلام، إلا من عدا على أحد من المسلمين أيام الردة فإنه تتبعهم فأحرق وقمط ورضخ بالحجارة ورمى من رؤوس الجبال))، ويعني أنه أحرق المناوئين، وربط أيديهم وأرجلهم جميعا، ورضح بالحجارة حتى الموت، ورمى خصومه من قمم الجبال، فأي قسوة ووحشية هذه حتى لو كان أولئك كفارا أو مرتدين عن الإسلام!
كما قتل الآلاف في اليمن من دون جرم واضح فيما سمي بردة كندة، قال الطبري٢/٥٤٦: ((وفيمن بعث (زياد بن لبيد البياضي والي حضرموت) يزيد بن قنان من بني مالك بن سعد فقتل من بقُرى بني هند _وهم بطن من كندة نسبوا الى أمهم: هند بنت ربيعة من بني زبيد_. إلى برهوت، وبعث فيمن بعث إلى الساحل خالد بن فلان _ ويستحي الطبري هنا أن يقول خالد بن الوليد_ المخزومي وربيعة الحضرمي فقتلوا أهل محا وأحياء أخر! وبلغ كندة وهم في الحصار ما لقي سائر قومهم. فقالوا: الموت خير مما أنتم فيه، جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمه، لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة. فجزوا نواصيهم وتعاقدوا وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعض)).
وطال أمد الحصار فنزل الأشعث سرا فأخذ الأمان لنفسه وبعض خاصته، ودلَّ القوم على منافذ الحصن... فلما فتح الباب اقتحمه المسلمون فلم يدعوا فيه مقاتلا إلا قتلوه ضربوا أعناقهم صبرا، وأحصى ألف امرأة ممن في النجير والخندق ووضع عليهم السبي)).
فهذه صورة من صور العنف والقتل الممجد عند كتاب السلطة، وفي ثقافة بعض المذاهب الإسلامية، فإن في قول الكنديين الذي نقله الطبري: (جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم، فأنعم عليكم فبؤتم بنعمه) دليل واضح على أنهم كانوا مسلمين مؤمنين بالله غاية ما في الأمر كانوا معارضين للسلطة القائمة، فاستحقت القبيلة بذلك أن تهاجم في ديارها ويقتل أبناؤها وتسبى نسائهم من دون أن يعرف بعضهم فيم يقتلون.
ويروي لنا الطبري صورة بشعة من صور القسوة والعنف وانعدام الضمير، وبطل هذه القصة أمير المؤمنين هارون الرشيد معز الإسلام وباني مجده، يقول في ج٦ ص٥٢٥ : ((وأسر أخا رافع بشير ابن الليث فبعث به إلى الرشيد وهو بطوس، فذكر عن ابن جامع المروزي عن أبيه قال كنت فيمن جاء إلى الرشيد بأخي رافع، قال: فدخل عليه وهو على سرير مرتفع عن الأرض بقدر عظم الذراع وعليه فرش بقدر ذلك أو قال أكثر، وفي يده مرآة ينظر إلى وجهه قال فسمعته يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ونظر إلى أخي رافع فقال: أما والله يا ابن اللخناء إني لأرجو أن لا يفوتني خامل يريد رافعا كما لم تفتني. فقال له: يا أمير المؤمنين قد كنت لك حربا وقد أظفرك الله بي فافعل ما يحب الله أكن لك سلما، ولعل الله أن يلين لك قلب رافع إذا علم أنك قد مننت علي. فغضب وقال: والله لو لم يبق من أجلى إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت اقتلوه. ثم دعا بقصاب فقال: لا تشحذ مداك (سكاكينك) اتركها على حالها، وفصِّل هذا الفاسق، وعجِّل لا يحضرن أجلى وعضوان من أعضائه في جسمه، ففصَّله حتى جعله أشلاء، فقال: عد أعضاءه. فعددت له أعضاءه فإذا هي أربعة عشر عضوا، فرفع يديه إلى السماء فقال: اللهم كما مكنتني من ثأرك وعدوك فبلغت فيه رضاك فمكني من أخيه، ثم أغمي عليه وتفرق من حضره، ومات هارون الرشيد))
يا للقسوة، يأمر القصاب أن يقطعِّ إنسانا أربعة عشر قطعة وهو على فراش الموت، فما حسبك لو كان سليما معافى؟
وهناك العشرات من أمثال هذه القصص وأبطالها في عالمنا الإسلامي كثيرون ويا للأسف، بدأ بيزيد والحجاج وعبيد الله بن زياد وانتهاء بصدام وعلي حسن الكيمياوي وغيرهم العشرات من الظلمة والمجرمين والمؤسسيين لظاهرة العنف في المجتمع الإسلامي ولا زال هؤلاء يمجدون الى يومنا هذا في وسائل إعلامنا وفي كتبنا ومقالاتنا، بل يطالب وعاظ السلاطين أبناء المجتمع أن يتخذوا من هؤلاء قدوة وأسوة، للغرض سوى إراقة المزيد من الدماء، ولا ينقضي تعجبي من هؤلاء الذين يظنون أن بإمكانهم ومن خلال القتل والتشريد أن يُمحوا الآخر من خارطة الوجود، متناسين حقائق التاريخ أن الدين والعقيدة لا يمكن محوهما بمثل هذه الوسائل، ولو كان بالإمكان ذلك لانمحى من صفحة الوجود ما كان يسمى بمذهب الخوارج، فقد تعرض هؤلاء الى القتل والتشريد طيلة قرون من الزمان، ومع ذلك أن بقية منهم لازالت باقية الى اليوم، والخوارج أنفسهم خير مثال على الاستخدام الفاشل للعنف والقتل وحاولوا إجبار الناس على الاعتقاد بعقيدتهم لكنهم لم يحصدوا من ذلك إلا المزيد من الضحايا، وكان انعكاس استعمالهم العنف أشد خطرا على أنفسهم من غيرهم.