بسم الله الرحمن الرحيم
لم تكن علاقاتنا بالخارج دائماً ودية، سواء في عهود الحروب الدينية، او في المراحل الاستعمارية.. لذلك امر طبيعي ان تتولد مواقف متحفظة ازاء ما نسميه الخارج. لكن العالم تغير كثيراً ولم يعد قارات او بلدان متجاورة، بل تحول الى علاقات متداخلة.. فلم يعد امر سهل تمييز ما هو خارج او داخل.. فاشتبك الاقتصاد والسياسة والثقافة والجنسيات والعلاقات وغيرها.. رغم ذلك ما زالت مواقفنا ردود افعال.. تحمل كثيراً من العناد ولا تمثل وعياً وموقفاً اصيلاً.. فنحن مثلاً نعجب بانجازات الخارج عندما نتجول هناك، ونتمناها لبلداننا، لكننا نتصرف عند العودة بكل ما يناقض على تشجيع كل ما هو ايجابي ورفض كل ما هو سلبي.
الجديد والوارد يجب ان يقبل او يرفض بالوعي والمصلحة الحقيقية.. وهذا لا يتم ان لم نعرف حقيقة مصالحنا.. فلا نعتمد على ما اعتدنا عليه من مواقف،والتي توقف التدقيق فيها ومراجعتها. اذ لا يكفي انها كانت صحيحة في وقت ومكان ما.. المهم ان تكون صحيحة اليوم وفي ظروفنا الواقعية المعاشة.. فالوارد الجديد لا يتم بالرفض فقط، بل يجب ان نرى كيف نتجاوزه تقدماً وليس انكفاءاً وتراجعاً.. فنحن بحاجة الى مراجعات تاريخية لنرى ان المسلمين عندما كانوا واثقين من انفسهم استطاعوا التعامل مع الوارد الخارجي بكفاءة اعلى مما نقوم به اليوم.. قاموا بالاستيعاب والنظر في الوارد والتعرف على ايجابياته وسلبياته.. وليس الرفض المجرد او الانكفاء بدون تشخيص ودراسة. بدون منتجات فكرية وقيمية حقيقية وفاعلة داخلياً سيصعب منع المنتجات السلبية وقبول الايجابية.. وبدون تفاعل جدي ومنفتح مع الخارج لن تكون هناك منتجات فكرية وقيمية حقيقية وفاعلة داخلياً.
الامثلة كثيرة..في القرن التاسع عشر وبدايات العشرين قاومنا المدرسة.. ثم قاومنا الديمقراطية.. في حين ان المدرسة تاريخياً هي في جوهر بناءاتنا الدينية والمدنية والتاريخية.. ونظام التعاقد والبيعة والشورى وعدم استبداد الحاكم هي ما يؤكد عليها الشرع المقدس. كان للرفض معنى لانه ارتبط بالتدخل وقسر مفاهيم وقيم ارادت تفكيكنا واستعمارنا.. وتزايدت شكوكنا ومخاوفنا وصرنا نرفض اي شيء حتى وان كان صحيحاً. لقد فقدنا ثقتنا بانفسنا، كما فقدنا معيار الصواب والخطأ في تشخيص مصالحنا. امم كثيرة مثلنا عاشت تلك المراحل وقاومتها.. لكنها ادركت في الوقت المناسب، ان لا مجال في استعادة القوة ان لم تكتسب مصادرها، في ظروف عالم اليوم وحقائقه وليس في ظروف اخرى لم تعد قائمة. ونهضت الصين والهند وبلدان اسلامية كثيرة صارت تنافس مستعمريها السابقين.. فالخوف والتمنع لا يصنع شيئاً بمفرده، بل التزود بالثقة ومصادر تشخيص المصالح ومصادر القوة الحقيقية الاقتصادية والعلمية والنظمية والتعبوية الكفيلة بنهضة الامم..
ما يؤسف له ان الثقافة السائدة ترفض الكثير من الامور الايجابية وتقبل الكثير من الامور السلبية الواردة.. انظروا الى استيراداتنا السلعية والفكرية والمسلكية وستجدون انها مما لا يستهلك في الخارج فيرميها علينا.. انظروا الى مخاوفنا كيف ترفض التطور وادواته، ولا نبدأ باستخدامها الا متأخرين بعد ان يكون العالم قد قطع اشواطاً جديدة للامام.. فقدنا المبادرة والثقة بالنفس وصرنا مجرد مستهلكين، وهذه لا تقل عن حالات الاستعمار او الخضوع المباشر.