نقاشات كثيرة حول ارتفاع سعر الدولار. وبعجالة نذكر سببين رئيسيين.
١- إنّها ظاهرة عالمية. وهو السبب الأساس. فشهد الدولار تصاعداً ملموساً خلال (٢٠٢٢) أمام باقي العملات. وتراوحت النسب لأقل من (١٠% ) لكندا واستراليا والصين وماليزيا مثلاً، و (١٠%-٢٠% ) لمنطقة اليورو، وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة واليابان، الخ، وحوالي (٣٠%) لتركيا، و(٤٠%) لمصر، فشمل الجميع من دون استثناء.
والسبب الأساس يرتبط بالتطورات العالمية الأخيرة، وتقدم الكثير من الاقتصاديات، أمام تراجع مرحلي وبنياني في الاقتصاد الامريكي. فلجأ "الفيدرالي" لرفع سعر الفائدة (٧) مرات في أعلى دورة شهدها الدولار في تاريخه، من (٠.٧٥%-١%) في (اذار٢٠٢٢) إلى (٤.٢٥%-٤.٥٠%) في نهاية العام. بهدف إيقاف ارتفاع الأسعار وخفض التضخم إلى (٢%).
سيرتد الاجراء على الدول جميعها. فالدولار برغم تراجعه في احتياطيات الدول من (٧٥%) سنة (٢٠٠٠) إلى (٥٨.٨%) نهاية ٢٠٢٢، ما زال يشكل العملة العالمية الأولى بامتياز. إذ يتم التداول يومياً (اكرر يومياً) بما يقارب (٦) ترليون دولار في شتى المعاملات. فـ"الفيدرالي" ليس البنك المركزي الامريكي فقط، بل هو ايضاً قيادة المصارف والاقتصاد الامريكيين، وقيادتهما بالتالي -منذ أربعينيات القرن العشرين- لشبكة المصارف والاقتصاديات العالمية. وإن ارتفاع سعر الفائدة سيؤدّي لسحب المزيد من الدولارات، وارتفاع كلف القروض، ليس امريكياً فقط، بل عالمياً ايضاً. فتولد زخماً هائلاً نحو الدولار وايداعه في مواقع مطمئنة لمالكيه. فتتحرك العوامل المحلية والخارجية، الفرعية والاساسية، السياسية والاقتصادية والمضاربة والنفسية، القصيرة والبعيدة الأجل، لطلب الدولار. وهو ما تشهده -بنسب متفاوتة- جميع البلدان، ومنها العراق.
هذه السياسة تعكس ايضاً أزمة النظام العالمي، الذي ندفع جميعاً أثمانها. فهي سياسة تسعى من جهة لتخفيف ضغط ارتفاع الأسعار على العائلة الامريكية لأغراض اقتصادية وانتخابية، لكنها بالمقابل مضطرة لتوفير سيولات يحتاجها الاقتصاد الامريكي، فيضطر لطبع المزيد من الدولارات بدون حقيقة اقتصادية موازية أو داعمة. ما يقود للمديونية التي تبلغ اليوم (٣١.٥) ترليون دولار، وتمثل (١٣٥.٢%) من الناتج الوطني، وتقول: هل من مزيد. فارتفاع سعر الدولار سيشجع الاستيراد ويضعف الصادرات الامريكية، ويزيد من أزمة تنافسية الاقتصاد الامريكي. وتبين الاحصاءات تراجع الصادرات الامريكية في الاقتصاد العالمي منذ (٢٠٠٠) من (١٢%) إلى (٨%). فمعالجة العاجل على حساب الآجل، أمر يحذّر منه الكثير من الاقتصاديين والسياسيين الامريكيين أنفسهم.
٢- إنّها ظاهرة محلية، فالعراق يعتمد في موارده على النفط اساساً، المرتبط بالدولار.كما أنه بسبب نمطية اقتصاده، يعتمد اساساً الاستيراد السلعي والخدمي (٧٩.٤ مليار دولار في ٢٠٢١، بحسب منظمة التجارة الدولية لتمثل ٢٤.٢% من الناتج الاجمالي)، من دون ذكر المعاملات والتحويلات غير الموثقة. فمثلاً جاء العراقيون في المرتبة الثالثة في شراء العقارات التركية، بواقع (٦٢٤١) عقاراً في (٢٠٢٢). وبحسبة بسيطة نتكلم عن حوالي المليار دولار، ستحوّل أغلب مبالغها بطرق ملتوية. وقس على ذلك.
يقول البعض : إنّ السبب الرئيس لما يجري هو لإيقاف غسيل العملة وتهريبها والعقوبات على إيران. ونرى في ذلك عاملاً ثانوياً أمام العاملين العالمي كأساس، والمحلي باعتبارنا اقتصادا ريعيا يعتمد على البترودولار والاستيراد. فتلك العوامل (التهريب والعقوبات) كانت موجودة قبل تخفيض سعر الدينار. ولتنشيط الذاكرة نشير إلى انه في (٤/١٠/٢٠٠٣)، وهو أول يوم لتدخل المركزي العراقي -وإقرار مبدأ التعويم النسبي للدينار، بعد انتهاء نظام سعر الصرف الرسمي الثابت- قام البنك ببيع الدولار بــ(١٩٢٠) دينار/دولار، مقابل سعر سوقي مقداره (٢١٨٠) دينار/دولار. واستمرت سياسة المركزي بادارة الراحل الشبيبي ونائبه الأستاذ مظهر، ليستقر سعره الرسمي حول (١١٨٠) دينار/دولار، واستمر كذلك مع خلفهما حتى نهاية ٢٠٢٠. وخلال هذه المدة انخفض التضخم إلى رقم احادي واحد، بعد أن كان لمدة رقمين (٦٠% احياناً)، واستقرت أسعار الأسواق إلى حد كبير، مع بقاء الكثير من الثغرات والسلبيات، والمسؤول عنها ليس السياسة النقدية فقط، بل مجمل السياستين المالية والاقتصادية.
إنّ الأزمة الحالية في دوافعها الداخلية ترتبط بقرار التخفيض غير الموفق في نهاية (٢٠٢٠) بم٧برر توفير أموال لتغطية بعض عجز موازنة (٢٠٢١) المقترحة عندما كان سعر النفط (٥٠) دولاراً تقريباً. فاتُّخِذ القرار وأصبح نافذاً، بتأثيرات خارجية، ووجود ملكيين لدينا أكثر من الملك نفسه، فيبالغون في خوفهم واجراءاتهم. فتخفيض العملة خيار نوقش في حكومة الدكتور العبادي وحكومتنا، ورُفض لعدم واقعيته ومضاعفاته، برغم أن سعر النفط انهار لأقل من (٣٠) دولارا/برميل يومها، وبلغ (١٧) دولارا/برميل احياناً، وهبطت احتياطيات البنك المركزي لحوالي (٤٠) مليار دولار، وكانت العقوبات على إيران على أشدها، إضافة لبقية الضغوطات السلبية.
فالأزمة الحالية -إضافة للعامل الخارجي الأساس- هي أزمة سياسية ومرض اقتصادي داخلي. تتطلب معالجة جذرية للسياستين المالية والاقتصادية، وهما المرتكزان الاساسيان للسياسة النقدية.
عادل عبد المهدي
٢٤/١/٢٠٢٣