يُعَدُّ التلفاز أحد أكثر الوسائط الإعلامية حضوراً في حياة الأفراد، لا سيما الأطفال والناشئة. فهذه الشاشة الصغيرة دخلت البيوت لتصبح جزءاً من تفاصيل اليومي، لكنها لم تبق مجرد أداة للترفيه، بل تجاوزت ذلك لتصبح عنصراً فاعلاً في تشكيل الوعي والسلوك والعادات والتصورات. وإذا كان للكبار قدرة نسبية على التمييز بين ما يشاهدونه من محتوى، فإن الأطفال والشباب، بما لهم من قابلية شديدة للتأثر والتلقي، يصبحون أكثر عرضة لآثار التلفاز سلباً أو إيجاباً.
في هذا المقال سنسلط الضوء على أثر التلفاز في مجالين رئيسيين، التحصيل الدراسي والبناء الثقافي والسلوكي، مع محاولة إبراز التحديات التي تواجه الأسرة والمجتمع في ظل هيمنة هذه الوسيلة، ومناقشة سبل التوازن بين الاستفادة من إيجابياتها وتجنب مخاطرها.
التلفاز والتحصيل الدراسي بين الإدمان والضعف التعليمي… لقد أثبتت التجارب التربوية والميدانية أن للتلفاز أثراً ملحوظاً على التحصيل الدراسي. فكثير من الآباء والمعلمين يشكون من انشغال الأطفال والشباب بالمشاهدة على حساب أداء الواجبات المدرسية، وهو ما ينعكس سلباً على مستوى التحصيل العلمي.
دراسة كندية دالة… من أبرز الدراسات التي كشفت بوضوح عن هذا التأثير السلبي ما جرى في كندا. فقد أُجريت مقارنة بين مستويات القراءة لدى الأطفال في ثلاث مدن، “مدينة لا يصلها البث التلفزيوني. مدينة تتوافر فيها قناة واحدة فقط. مدينة تملك عدة قنوات منذ سنوات”.
أظهرت النتائج أن الأطفال في المدينة الأولى (التي لم يصلها التلفاز بعد) قد حققوا درجات أعلى في القراءة مقارنة بأقرانهم في المدينتين الأخريين. بل إن أطفال المدينة ذات القناة الواحدة تفوقوا على أطفال المدينة متعددة القنوات. وبعد عامين فقط من وصول التلفاز إلى المدينة الأولى، انخفضت مستويات القراءة فيها إلى ما يقارب المدينتين الأخريين.
هذه النتيجة تعكس أثر المشاهدة المفرطة التي تُقصي التلميذ عن التفاعل مع الكتاب أو الواجب المدرسي، وتغريه بالسهولة والمتعة الفورية على حساب الجهد المعرفي.
تفسير الظاهرة… يُرجع الباحثون هذا الانخفاض في مستوى التحصيل إلى طبيعة المشاهدة التلفزيونية نفسها، فهي نشاط لا يتطلب جهداً ذهنياً أو عضلياً، بخلاف القراءة أو حلّ التمارين المدرسية. لذا يميل الطفل إلى تقليص الوقت المخصص للتعلم والقراءة لصالح متابعة برامجه المفضلة. وغالباً ما ينجز واجباته على عجل أو بشكل سطحي ليتفرغ للمشاهدة.
إحصاءات تربوية بينت أيضاً أن ضعف القدرة على التعبير والكتابة، وتراجع مهارات الحساب، ارتبط طرداً بانتشار التلفاز في البيوت. والمدرسون أنفسهم يقرون بأن جزءاً كبيراً من تراجع الحافز الدراسي يعود إلى انغماس الطلاب في عالم البرامج التلفزيونية.
التأثير الثقافي والسلوكي… غزو العادات عبر الشاشة لا يتوقف أثر التلفاز على التحصيل الدراسي، بل يتعداه إلى تكوين البنية الثقافية والاجتماعية للأبناء. فالطفل في سنواته الأولى أشبه بالإسفنجة التي تمتص ما يُلقى إليها دون تمييز، ما يجعل القيم والسلوكيات التي تُعرض في البرامج والأفلام قادرة على التغلغل في شخصيته وتشكيل نظرته للعالم.
تلفاز بلا ضوابط أخلاقية… الإشكالية الكبرى تكمن في أن أغلب المحطات التلفزيونية لا تلتزم بالضوابط الأخلاقية، بل تتعمد أحياناً نشر أنماط حياة وقيم بعيدة عن خصوصيات مجتمعاتنا وديننا وثقافتنا. فنادراً ما نجد قنوات تهدف بصدق إلى بناء جيل ملتزم ومتوازن، في مقابل طوفان من البرامج والأفلام التي تُشيع ثقافة الاستهلاك، والمادية، والتبرج، والأنماط الغربية في اللباس والكلام والعلاقات الاجتماعية.
تطبيع مع السلوكيات المنحرفة… يعتاد الأطفال عبر المشاهدة على رؤية الخيانة الزوجية أو العنف الأسري أو التمرد على القيم باعتبارها أموراً طبيعية أو حتى مسلية. كما تُقدَّم النزعة المادية المفرطة باعتبارها علامة نجاح، ويُعزز التفرنج والتقليد الأعمى للغرب بوصفه رمزاً للتقدم. هذه الصور، حين تتكرر، تترسخ في وعي الطفل والناشئ، ليغدو تقبلها أمراً عادياً.
التأثير على الهوية الثقافية… التلفاز لا ينقل فقط قصصاً وأحداثاً، بل ينفذ من خلالها إلى العادات والتقاليد واللغة والمفاهيم. فحين يشاهد الطفل برامج مدبلجة أو مترجمة بلغة بعيدة عن بيئته، ومع مضمون يرسخ قيم الاستهلاك أو الفردانية المفرطة، فإن ذلك يضعف انتماءه لثقافته الأصلية. وهنا يصبح التلفاز وسيلة من وسائل الغزو الثقافي الناعم الذي يستهدف المجتمعات من داخلها عبر أطفالها.
إشكالية التوازن بين الإيجابيات والسلبيات… على الرغم من هذه المخاطر، لا يمكن إنكار أن للتلفاز إيجابيات حين يُستثمر بشكل صحيح، فهو قادر على تقديم برامج وثائقية وعلمية تفتح آفاق المعرفة. وعرض برامج تربوية هادفة تساعد في تنمية مهارات الطفل. ونقل الثقافات والتجارب الإنسانية النافعة. لكن هذه الإيجابيات مشروطة بالانتقاء الواعي من قبل الأهل، وتحديد أوقات المشاهدة وضبطها، بدل ترك الأطفال تحت رحمة البث العشوائي.
دور الأسرة والمدرسة… الأسرة مطالبة بمراقبة المحتوى الذي يتابعه الأبناء، وتخصيص وقت محدد للمشاهدة لا يتعارض مع الدراسة أو اللعب أو النشاط البدني. كما ان المدرسة ينبغي أن تغرس في التلاميذ الوعي النقدي، بحيث لا يتلقون المحتوى بشكل سلبي بل يكتسبون القدرة على التمييز بين المفيد والضار.
المجتمع بدوره مدعو إلى إنتاج إعلام محلي بديل، يُراعي القيم الأخلاقية والهوية الثقافية، ويقدم محتوى جاذباً وهادفاً ينافس ما تبثه القنوات الأخرى.
نحو وعي إعلامي رشيد… لقد صار التلفاز اليوم جزءاً من منظومة إعلامية أوسع تشمل الإنترنت والهواتف الذكية ومنصات البث الرقمي، ما يجعل التحدي أكبر. غير أن نقطة الانطلاق في مواجهة هذه التحديات تبقى في تعزيز الوعي الإعلامي لدى الأسر والأطفال على السواء.
هذا الوعي يعني إدراك أن ما يُعرض على الشاشة ليس مجرد ترفيه بريء، بل خطاب متكامل له غايات اقتصادية وسياسية وثقافية. ويعني أيضاً تدريب الأبناء على أن يكونوا مشاهدين ناقدين لا مستهلكين سلبيين، فيتعلموا طرح الأسئلة. ما الرسالة التي يحاول البرنامج إيصالها؟. ما القيم التي يعززها أو يهدمها؟. هل تتوافق مع ديننا وثقافتنا وأهدافنا في الحياة؟.
بهذا الفهم يصبح التلفاز وسيلة من وسائل التعلم والترفيه الموجه، لا أداة للغزو الثقافي أو سبباً في الفشل الدراسي.
التلفاز، بقدر ما يمتلك من قدرة على الإمتاع والتثقيف، يحمل في طياته خطراً كبيراً على الأطفال والناشئة إذا تُرك بلا ضوابط. فهو يؤثر على التحصيل الدراسي بتقليص وقت التعلم وإضعاف الحافز المعرفي، ويؤثر على المستوى الثقافي والسلوكي بنقل عادات وتقاليد بعيدة عن قيمنا.
لكن الخطر ليس قدراً محتوماً. فبإمكان الأسرة والمدرسة والمجتمع أن يحوّلوا هذه الوسيلة إلى أداة بنّاءة عبر الانتقاء الواعي، والتوجيه السليم، وتطوير بدائل إعلامية أصيلة. إن معركة بناء الجيل الجديد لا تُحسم في قاعات الدرس وحدها، بل أيضاً أمام شاشة التلفاز. ومن يملك هذه الشاشة يملك التأثير الأعمق في تشكيل العقول والقلوب.