المقدمة
ما أن حصل التغيير في العراق خلال عام ٢٠٠٣ على البنية السياسية ، وأصبح العراق نظاما ديمقراطيا نيابيا تعدديا بعد ما كان نظاما شمولياً ذا سمات دكتاتورية ، مبتدء باعتماد صناديق الاقتراع لنقل السلطة دون اللجوء إلى العنف وسياسة الانقلابات والإقصاء ، حتى أدخل هذا التغيير دول الجوار مرحلة جديدة في غاية الخطورة على حاضرها ومستقبل أنظمتها لكونها اتصفت بغياب التعددية الحزبية وغياب تقاليد العمل السياسي المؤسسي وضعف المشاركة السياسية والأُطر الديمقراطية ، فضلا عن امتيازها بسمات عدم الاستقرار السياسي في الداخل ، فقد هزّ هذا التغيير عروش تلك الأنظمة وشكلت لها فترات عصيبة من قلق واضطراب وخصوصا بعدما علمت من أن الولايات المتحدة الأمريكية عازمةٌ على نشر الديمقراطية في عموم المنطقة وما لديها من دوافع وغايات بعيدة تتجاوز المشهد العراقي ، وهي ذات صلة بالموقع الاستراتيجي الذي تشغله تلك الدول وما يتوفر فيها من إمكانات اقتصادية هامة وقدرات بشرية هائلة ، ولما لشعوبها من رغبة في التغيير وإجراء إصلاحات ديمقراطية على أنظمتها ، جعل تلك الأنظمة تُجند كل طاقاتها وإمكاناتها المالية والاستخبارية لتقويض النظام الجديد في العراق الذي نشأ عنه حكومة وطنية منتخبة من الأكثرية من الشعب العراقي ممثلة من ألإتلاف الوطني الموحد ، فأغاض أصحاب تلك الأنظمة كثيرا ، لأنهم يخالفونهم فكريا وعقائديا وكونهم فازوا بالأولوية في صنع القرارات بكل أشكلها ، ومازالت تلك الأنظمة تخطط وتكرر محاولاتها من خلال إحداث تفجيرات دامية في كل أنحاء العراق وخلق حالة الفوضى والاضطراب للحكومة العراقية لكي تُثبت أيضا لشعوبها من أن تطبيق النظام الديمقراطي غير مجد لما سيولده لهم من انفلات امني وتحارب بين مكونات الشعب الواحد ، الأمر الذي أدى بهم العمل على محاولة شق الصفوف داخل الإتلاف من خلال تفعيل نظرية المؤامرة وإشاعة الأكاذيب ، للنيل من تفتيت هذه الأكثرية . ألا أن الأكثرية انتبهت لهذه
المؤامرات ، فذهبت من خلال ما اكتسبتها من خبرات في المناورة السياسية إلى احتواء تلك الظروف الشاذة وعدم السير ضد التيار واضطرارها قبول مبدأ المحاصصة في إدارة الحكم مع علمها أن الديمقراطية الحقة لا تعني إلا حكم الأكثرية ، والتي يجب أن تكون نابعة عن ثقافات الشعب الواحد بعيدة عن الديمقراطيات المسلفة . وبالرغم من ذلك حصلت الانشقاقات في الإتلاف الوطني الموحد . وأفرزت نتائج مخيبة للآمال في الانتخابات لحسم تشكيل الحكومة من قبل الأكثرية وبأصوات مريحة ، بسبب ذلك التشظي والفرقة وحالة التخبط السياسي التي أنجحها أعداء الإتلاف الوطني الموحد . فحصل التخبط وكثرت المساجلات ورمي التهم غير المدروسة وإعطاء فرصة أكبر للتدخلات الأجنبية في تشكيل الحكومة وإضعاف قدرتها . وبعد فوات الأوان انتبهت الأكثرية على هذا الخطر المحدق بها مما دفعها القفز على المحنة للحفاظ على إبقاء العملية السياسية قائمة وبنفس الوقت بعث رسائل لتلك الأنظمة المتآمرة مفادها بعدم أمكانية رجوع العراق إلى الحكم الشمولي ، مما أثار مخاوف المتضررين من العملية السياسية وحتى الأمريكان أنفسهم من أن يصبح للعراق دما جديدا ومنهجا جديدا وقدرات جديدة ، بعد أن بدا لهم عدم إمكانية السيطرة على العراق واحتوائه في حالة استمراره بهذا النهج التلاحمي الوطني ، فبات التفكير أما إرجاع العراق إلى المربع الأول أو تركه يتخبط في مستنقع الفوضى الخلاقة . ومن هذا المنطلق ركنت الأكثرية الممثلة بالإتلاف الوطني الموحد وتقوقعت على نفسها من شدة التحديات لتضع خطة مناسبة من أن تأخذ على عاتقها رص صفوفها وتذويب خلافاتها وملاقحة المشتركات التي بين مكوناتها المتشظية للحفاظ على وجودها ومكتسباتها وعدم السماح بتقويض منجزاتها وكذلك بإعطاء رسالة إلى الشعب العراقي من أن الإتلاف لا يمكن لأية عاصفة تستطيع تفكيكه ، لأنهم على علم بأن نظرية التفكيك من النظريات التي تؤدي إلى الوهن والإسقاط في الهاوية لا سامح الله . وبالرغم من ذلك وكل المحاولات والتقولات المغرضة التي أطلقها أعدائهم لتشويه فكرهم ومسيرتهم والتي ذهبت أدراج الرياح ، لم يستطع الأعداء من ثني عزيمة الأكثرية وظل زحفهم يسير نحو ترسيخ الديمقراطية الحقة والبقاء على قيادة المسيرة لتحقيق الأهداف الوطنية والفكرية مؤجلين خلافاتهم . وحتى تكون الصورة واضحة لدي الجميع على سلامة بقاء العملية السياسية حية والقدرة على صيانتها بصورة مستمرة من كل الانحرافات والتحديات التي قد تحصل مستقبلا ، يقتضي على الأكثرية مراجعة الذات وتوحيد قدراتها ورص صفوفها ونبذ الخلافات ، والتعامل على فك الاختلافات وتحليلها تحليلاً جدليا لصالح الإتلاف والعراق معا للوصول إلى التعامل على أساس الندية وفق مبدأ العدل والمساواة لضمان كسب ثقة الشعب العراقي بكل أطيافه وتأسيس مصداقية الممارسة والتطبيق للديمقراطية الحضارية الحقة التي تعني كما قلنا حكم الأكثرية ، على أن نُرجع تلك الاختلافات إلى سببين :
الأول : عدم وجود مقياس موضوعي لتحديد نطاق أو أُطر النظام الجديد وبناء جسور الثقة بين المكونات والطوائف العراقية دون تمييز آو إقصاء .
والثاني : سياسة واشنطن في العراق المرتكزة على مبدأ الفوضى
(غير الخلاقة) الذي دفع بالأمريكان بتطبيقها معتمدين على إحداث أزمات تلو الأزمات ثم تقوم بإحتواءها لتتمكن من مسك الخيوط كافة لتمكينها من تحريك المكونات السياسية حسب رغباتها وسياستها المبنية على أن العالم الثالث لا يحكمه إلا الأقلية من منطلق السيطرة وبالتالي تحقيق مصالحها النفعية والغائية ؛ ومرد ذلك تخوفها من الأحزاب الإسلامية التي باتت تتعايش مع الوجدان العراقي وأخذت مساحة واسعة في الشارع العراقي ، وخشيتها من إزاحة الفكر العلماني واللبرالي بصيغتهما الغربية والتي تعني دعه يفعل ما يشاء ، فهو فكر منفلت من عقاله غير مسؤول أمام قوانين حقوق الإنسان ولا السنن الإلهية المبنية جميعها على قواعد أخلاقية منضبطة . وفعلا وبتأثير هذه السياسة ومع الأسف ظهرت طروحات بعض السياسيين العراقيين ملأت الفضائيات ، متناقضة ومضطربة لا تتفق مع الواقع الحضاري العراقي وما طرأ على العالم من تغيير في المفاهيم الذي يتطلب المقاربة مع إيجابياتها أو محاولة أسلمتها كمفهوم اللبرالية وجعلها مفهوما نسبيا ينحصر معناها في أن كل فرد في مجتمعه حر وأن حريته تنتهي عندما تتجاوز حرية الآخرين ، أي أنها حرية مقيدة بقوانين حقوق الإنسان وبإرثنا الاجتماعي والديني . وكذلك مفاهيم الحداثة التي تعني تحديث كل شيء والتي لها مقاربة شديدة مع مفهوم المصطلح الإسلامي (التجديد) النابع من الحديث النبوي : (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأُمة أمر دينها) وفي هذا السياق يتعين وضع مطلب الإصلاح الديني وتجديده ضمن منظور مبدأ الاجتهاد المفتوح الذي يتجاوب مع طموح متنام وضروري لدى علماء الإسلام ومفكريه والذي يعني تليين النص ومده في المرتقى الحضاري . وهو تعريف يتعاصر مع مفهوم الحداثة ، لأن كل من التراث والحداثة قد يوفران على صعيد الأعراف والمفاهيم والتشكيلات بعض المقدمات الديمقراطية كالحريات العامة وتداول الرأي . أو الاتكاء على مبدأ التقية لتتمكن الأكثرية من مسك زمام الأمور وقيادة الأمة وفق مبدأ العدل والمساواة وهديا بقوله تعالى : ( من عمل صالحا من ذكر وأُنثى وهو مؤمن لنحيينه حياة طيبة) . ألا أن الأجواء السياسية في الشارع العراقي عامة والبغدادي خاصة تسير باتجاه التصعيد والتأزيم . والقادة السياسيون مازالوا يديمون اللعبة بشكل ينم عن تواصلهم في الدفاع عن طموحاتهم
الشخصية ، الأمر الذي دفع بالأكثرية بقبول مبدأ المحاصصة الطائفية والتوافقية تحت ذريعة التنوع ألاثني مما أدى إلى صعوبة تحقيق الاستقرار السياسي والأمني بسبب اختلاف الفرقاء السياسيين فيما بينهم ؛ وهذا النهج كان مؤسسا عند تشكيل مجلس الحكم بعد التغيير من عام ٢٠٠٣ . وبالرغم من معرفة القوى الوطنية العراقية المشاركة في هذا المجلس خطورة هذه الخطوة إلا أنهم رضوا بهذه النهج لسببين : أولهما ترسيخ العملية الديمقراطية في العراق والتخلص من ثقافة الدكتاتوريات والتهميش . وثانيهما محاولة أخراج المحتل الذي ساعد القوى المعارضة على التغيير بالطرق السلمية من العراق وبسلاسة . ومن هذا المنطلق ترسخت مفاهيم المحاصصة في العملية السياسية وسقط السياسيون في
مستنقعها ، بدلا من الارتكاز على مبادئ الديمقراطية الحقة ، ألا أن المحاصصة الطائفية تحولت إلى حكومة شراكة وطنية ومن ثم إلى التوافقية التي تعني في ما تعنيه أن تغض الطرف عن أخطائي وأخطائك ويتحمل الشعب الأخطاء جميعا بسب احتفاظ التوافقية على جوهرها وهي (المحاصصة الطائفية) ، وكأنه أصبحت قدرنا نحن العراقيون ، ففرضت هذه التوافقية على الواقع السياسي العراقي وخارج طموحات الشعب بحصول الأشخاص والمكونات على مناصب على أساس الطائفة والدين والقومية بعيدا عن الكفاءة والإخلاص والنزاهة ومفاهيم أخرى كثيرة كان المفروض أن تتوفر بمن يتولون هذه المناصب لضمان تقدم العراق . غير أنهم أوغلوا في المستنقع الطائفي وزاد الأمر بالطين بله باستحداث وزارات جديدة ومناصب سيادية جديدة أيضا كتلك التي أُقرت في مبادرة أربيل المستحيلة التنفيذ لتصبح القرارات ذات الطابع السيادي ازدواجية التنفيذ بين الحكومة والمجلس المزمع أنشاؤه قد تصل إلى حد التضارب بينهما ، بدلاً من أن نشهد ترشيق في عدد الوزارات في الحكومة الجديدة ، مما سيساهم في زيادة حالة الترهل الأمر الذي سيجعلنا بعد عقد من الزمن نكتشف بان ميزانية الدولة ستخصص جزءاً كبيراً منها لرواتب تقاعدية لهؤلاء ، إضافة لصرف رواتب الموظفين ومنتسبي الجيش والشرطة والمتقاعدين ، مما سيرهق الموازنة على حساب المشاريع الاستثمارية ، وفي الوقت ذاته أن المواطن بحاجة إلى نقلة نوعية في الممارسة الديمقراطية ليزيد من وعيه السياسي والديمقراطي والثقافي من خلال إنشاء منتديات ثقافية ، لكي يستطيع من استيعاب المراحل الأخرى قد تكون أكثر تعقيدا ويشعر بأهمية العمل الجماعي وتنتفي الحاجة من حالة المحاصصة بكل أشكالها ، لما لها من سلبيات يمكن إيجاز بعضها :
١. تؤدي إلى تقسيم الدولة إلى كيانات متناحرة وعزلة أبنائها البعض عن البعض الآخر على أساس الانتماء المذهبي أو القومي .
٢. إضعاف نضال الطبقات الاجتماعية الرامية إلى التحرر والتطور والانعتاق من الفقر والجهل والتبعية .
٣. يؤدي بالضرورة إلى تبوء أشخاص أقل كفاءة من الآخرين .
من هنا يمكننا أن نميز بين مفهوم التوافقية التي تنادي بها معظم المكونات السياسية وبين مفهوم المحاصصة الطائفية على النحو التالي :
١. التوافقية نظام سياسي مؤقت يخرج عن بعض القواعد العامة في العمل الديمقراطي يقوم مضمونه في الظاهر على أساس توزيع المناصب الوظيفية بين مكونات المجتمع القومية أو الدينية أو الطائفية أو السياسية على أساس نسبة المكون الاجتماعي العددية إلى المكون الاجتماعي العام ولو لم تحقق تلك المكونات نتائج ايجابية في الانتخابات تؤهلها للانتقال من كرسي المعارضة إلى كرسي الحكم .
٢. أما المحاصصة الطائفية فتقوم على أساس ، توزيع المناصب الوظيفية وفقاً لمعيار الانتماء لطائفة معينة على أساس نسبة الطائفة العددية إلى المكون الطائفي العام .
هكذا نسجت خيوط اللعبة السياسية وتسللت من كواليسها ودهاليزها إلى الشارع محدثة تخبطا سياسيا بين المواطنين وحتى بين الكتل السياسية نفسها فأخذ أصحاب تلك الطروحات يتخبطون يمينا ويسارا حتى ألتجأوا إلى ما لا يجوز الالتجاء إليه واعتمدوا على ما لا يصح الاعتماد عليه ، مما اتضح جليا قيامهم بترسيخ حالة الفوضى والاضطراب وانجروا إلى التحارب الطائفي والقومي والسلطوي . بعد أن ثبت فشل حكم المحاصصة والتوافقية التي من أهم سماتها إعاقة النمو الاقتصادي من خلال تكبيل يد الحكومة وإجبارها على لعب دور المساومات والتستر على المفسدين . ومن جراء هذا التخبط المنظم والمدروس من قبل بعض الدوائر الأجنبية أو على الأقل بأشرافها أصبح النظام السياسي وبالأخص الحكومة في حالة ضعف ووهن وانتشار الشعور بعدم الثقة بين السياسيين وكذلك لدى الشعب وبالتالي إنهاء دور العراق الريادي وتصغير
حجمه ، وهو مطلب بعض دول الجوار
توطئة :
ومن هذه المقدمة ينبغي علينا إيجاد آلية جديدة لنتمكن من ممارسة الديمقراطية وترسيخ المنظومة الحزبية وفق منهجية علمية يتطلبها الواقع السياسي الحالي وإخضاعه إلى المستجدات التي قد تظهر على الساحة السياسية الدولية والإقليمية ؛ وبمعنى آخر أن أي حزب أو تيار عليه أن يجدد من إستراتيجيته أي بتليين أيديولوجيته بما يتلاءم ومتطلبات المرحلة فأنني أرى بأن الثورة الدائمة على حالة الفساد وعلى قصر تقديم الخدمات إعلان لوجود العقل وهي حالة وعي عالي التركيز على التمرد حتى نصل إلى القول (أنا أتمرد إذن أنا موجود) وقد اتضحت معالمها من خلال الممارسات العملية لثورتي تونس ومصر. وإلا يصبح التغيير متعثرا وقد يصل إلى الموت ألسريري وتتداخل المصالح السلطوية ؛ ونكون خارج مفهوم الواقعية التطبيقية للسياسة المتماهية مع المُثل الملتزمة مُثل السماء وقوانين علم النفس البشري وما جُبل عليه الإنسان من عادات وقيم بغية عبور هذه المرحلة ، إذ يذهب معظم الباحثين في النظم السياسية إلى انتهاج مبدأ تصنيف النظام السياسي لبلد ما على أساس شكل النظام الحزبي فيه ، بوصفه مدخلا صادقا لدراسة كل متغيرات وخصائص العملية السياسية ويعكس حقيقة الإيديولوجية الحاكمة من حيث درجة انفتاحها أو انغلاقها على الأخر أو بمعنى أخر من منطلق الأخذ بالنظام الحزبي بوصفه معياراً لتصنيف الدول ، على أساس الهامش المتاح لمؤسسات المجتمع المدني ، ومن ضمنها الأحزاب السياسية والمنظمات والاتحادات المهنية وحتى المنظومة القبلية للمشاركة في الحياة السياسية والحكم وينحصر دورها في تفعيل المداليل الاجتماعية في زيادة الوعي بكل أشكاله ومحاكاة هموم الناس وتتولى في الوقت ذاته تحجيم سيطرة الدولة العمياء ، نجد في التاريخ السياسي إن هذه المشاركة تتحدد وفق ثلاثة اتجاهات : أهمها الاستبعاد سواء بموجب النص عليه أو فرض السلطة الحاكمة قيوداً على حرية التعبير ويحرم بالتالي تشكيل أحزاب سياسية ، أو تضع قانوناً يسمح بتعدد الأحزاب لكن تعطي السلطة لنفسها حق قبول إنشائها من عدمه للأهواء والدوافع الخاصة بالنظام ، أما الاتجاه الثاني فيتمثل في أن بعض الجماعات تنئ عن نفسها المشاركة في الحياة البرلمانية أو الحزبية بحجة ما تتضمنه من تشريعات تتناقض مع عقيدتها ، أي لديها أيديولوجية خاصة
بها . أما الاتجاه الأخير يذهب إلى ترك الباب مشرعاً للمشاركة في العملية السياسية .
غير أنني أجد مشاركة الأحزاب في الانتخابات كآلية مشروعة ومقبولة لتحقيق التحول السياسي وإنجاز التغيير السياسي على نحو سلمي ، ونقل رغبات ومطالب المواطنين إلى الحاكمين ليتسنى تحويلها إلى مخرجات سياسية ، وكأداة لحسم التناقضات والصراعات القائمة في المجتمع ، ولمحاسبة شاغلي السلطة بشكل دوري ، وكضمانة لتقاسم السيطرة على السلطة بين الجماعات المختلفة وفقاً لأوزانها النسبية ، فإنها تعد بذلك أفضل صور المشاركة وأكثرها فاعلية ، وتعتبر مؤشراً جيداً على مدى التطور الديمقراطي ، والوسيلة الوحيدة الكفيلة ليس فقط بدفع هذا التطور فحسب وإنما بصيانته وتأمينه أيضاً، وهو ما لا تتيحه ولا تستطيعه وسائل وقنوات المشاركة السياسية الأخرى . واستناداً لما سبق يمكن رسم الخريطة الحزبية في العراق منذ عام ٢٠٠٣ ولحد الآن بعد أن حصل التحول من نظام دكتاتوري إلى نظام ديمقراطي أعطى الأخير حق تعددية أنشاء الأحزاب ، وبالرغم من الحجر العام الذي سيطر على الحياة الحزبية في العراق أبان الحكم الدكتاتوري ، وفي ظل بقاء مخاوف الإقصاء المعشعشة داخل عقول السياسيين ، وإن هناك محاولات جادة من الخروج من هذا التقوقع ، ألا أن المخاوف بقيت كما يبدو وولدت صراعات سياسية حادة ، فهناك من سعى إلى إنشاء أحزاب جديدة ، عكست حالة الأزمة الحالية التي تعاني منها كل الأحزاب تقريبا . في الوقت الذي برزت فيه جهود حزبية من أجل تشكيل جبهات سميت بالأتلافات ، وذلك على خلفية قضية الإصلاح السياسي ومحاولة فرضه على أولويات النظام السياسي . وعلى سبيل المثال كان لكل من الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى نصيبا من التميز في الحياة الحزبية لعام ٢٠٠٣ ومطلع العام ٢٠٠٤، فالأول : قد قدم نموذجا في تغيير القيادات الحزبية عبر إعمال آليات ديمقراطية داخلية . أما الثاني طرح رؤيته للإصلاح الشامل ودخوله إلى الساحة السياسية بحُلة جديدة تتفق والتطور السياسي الذي يحصل على الساحة السياسية العالمية ، وكذلك الحال بالنسبة للأحزاب اللبرالية فقد وحدت صفوفها في سبيل مواجهة الأحزاب الدينية المتنامية شعبيا . أما الأحزاب الأخرى ذات القاعدة الشعبية القليلة ظلت في حالة جمود أو لنقول مقيدة الحركة بسبب قانون الانتخابات . الأمر الذي أدى إلى محاولة إحداث تغييرات كبرى في الحياة الحزبية والسياسية ، لكن الأحداث دلت لاحقا على عدم القدرة على توظيفها توظيفا جيدا، فضاعت هباء . وقد عبرت حالة الجمود التي تعاني منها ، هو أنها تتعلق بالمدخل الإداري وليس الشعبي في التعامل مع هذه الأحزاب ، فالأحزاب المجمدة تعاني في معظمها من أزمات بنائية تتعلق بغيابها من الأصل عن الجمهور واكتفائها فقط على كوادرها المعينين لديها ، فهي تمثل مجرد مقر وعشرات الأعضاء ، دون أي تأثير حقيقي في الشارع السياسي ، وذلك بسبب أن نشأتها جاءت نتيجة لإجراءات إدارية قام بها المؤسسون مع لجنة الأحزاب وفى ساحات المحاكم وليس بين الجماهير في الحي والمدينة ثم على امتداد الوطن كله . ولعل محاولة كسر هذا الجمود في المشهد السياسي ، هو رأب الصدع بين المواطن من جهة والأحزاب من جهة أخرى، وإلى بناء قاعدة جديدة لها في صفوف الشباب والمرأة والمجتمع المدني وتحديث الكوادر باستمرار لإعطاء أحزابها دم جديد لإخراجها من حالة الركود وبخلافه قد يصل بها إلى الموت ألسريري ، وكذلك إشعار المجتمع على تغيير البنية الثقافية على أسس الوسطية الإيجابية وقيم المشاركة ، وذلك بإعادة النظر في القوانين المنظمة أو المقيدة للأحزاب والنقابات ومباشرة الحقوق السياسية .
ولدي رؤية خاصة في مسألة الأقاليم التي أفرزتها الفدرالية كنظام ورد في الدستور العراقي أود إيجازها من منطلق (المطالبة بالأقاليم لا تأتي من موقف انفعالي) : إن الفلسفة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية قامت على أساس أن أي قلاقل أو مشاكل داخلية تحدث في دولة ما ، سيكون لها الأثر السلبي على المجتمع الدولي ، ومنها أمريكا نفسها . وهذه الفلسفة انبثقت بعد أحداث ١١ سبتمبر وتداعيات حملة كوسوفو عام ١٩٩٩ التي تروم إلى تفتيت مناطق العالم الثالث إلى دويلات صغيرة بحجة الدفاع عن النفس الذي يعتبر مبدأ من مبادئ القانون الدولي الذي لا يمكن تجاوزه في أي معاهدة أو وثيقة قانونية ، وبالتالي فقد أصبحت هذه الفلسفة سياسة أمريكا الإستراتيجية في الوقت الراهن متمثلة بمشروع الشرق الأوسط الجديد ، غايته القيام بتفتيت البلدان المحصورة بين صحارى المغرب إلى صحارى أفغانستان بغية السيطرة عليها بكل يُسر اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وثقافيا والسيطرة على ثرواتها الطبيعية ومنها النفط واستغلال مواقعها الاستراتيجية في الصراعات الدولية مع علمها أن هذه المنطقة تزخر بالمكونات المختلفة والمتباينة في الثقافات والهويات . فقد وجدت أن الآلية لغرض تطبيق هذا المشروع هو الذهاب إلى تقسيم الوطن الواحد على أساس طائفي وعرقي بدعوة تشكيل فدراليات لكي تنشغل تلك المكونات في خلافاتها سواء على أساس ترسيم الحدود كما يحصل الآن في الخلاف على المناطق المتنازع عليها أو الصراع على السلطة التي ستحصل بين المكونات السياسية للمنطقة الواحدة . مما سيسهل على القوى المتسلطة من تطبيق عولمتها المنفلتة من عقالها والتي تكمن في استلاب الموارد الطبيعة وتجويع البلدان الغنية بنفطها وجعلها أسواق حرة لسلعها بدون منافس واستهلاك الثقافات وإزاحة الهويات من خلال تطبيق اللبرالية بمفهومها الغربي كما اشرنا سابقا عندها ستتمكن من وضع شعوب تلك المناطق تحت رحمتها وإملاءاتها ومحاولة كسر عزلة الكيان الصهيوني إقليميا وتوفير مجال حيوي يساعدها على العيش بسلام وكذلك تخليصها من عقدة كون الكيان ذا حجم صغير . ومن هذا المنطلق تعتقد بأنها تستطيع الارتكاز على تنفيذ مشروع التفتيت من خلال تشجيع دول منطقة الشرق الأوسط ومنها العراق على تشكيل أقاليم وفدراليات بدعوة تقديم أفضل الخدمات ؛ في الوقت الذي بالإمكان تقديمها من خلال توسيع صلاحيات المحافظات وتطبيق مفهوم الديمقراطية التوافقية الحضارية إذا كانت التوافقية قدرنا (بالرغم من عدم إيماني بها للأسباب أنفة الذكر) في اختيار ممثلي الشعب ، ألا أنه يجب أن تستند على محورين :
١. أن تُعطى الأولوية لضرورة التوافق على برنامج سياسي واقعي واضح وموحد يخدم المجتمع العراقي بكل أطيافه .
٢. إن حكومة الوحدة الوطنية يجب أن تتشكل على أساس المشاركة الواسعة للقوى والكتل البرلمانية وممثلي المجتمع المدني وما يتمخض عنه صناديق الاقتراع وبعيداً عن نهج المحاصصة الثنائية وحتى الثلاثية واقتسام النفوذ الذي هو الوجه الآخر لنهج الانقسام والصراع ألتناحري على السلطة ، على أن يتم اتخاذ القرارات على اعتبارين : أولهما القرارات ذات الطابع الإستراتيجي والسيادي يجب أن لا تخضع لإملاءات المحاصصة الطائفية أو لأملاءات خارجية ، وإنما تؤخذ بالأكثرية المطلقة . وثانيهما القرارات التي خارج هذا المفهوم ، فلا ضير أن تخضع إلى التوافقية وضمن جدول الأولويات يتم الاتفاق عليه .
وإزاء هذا التناقض والتخبط يجب أن تكون حكومة عراقية صاحبة قرار مستقل عن كل أشكال التأثيرات الخارجية ولا ينبغي ربط العراق بأية شروط تجعله مرتهناً لإرادات خارجية إقليمية أو دولية ، وإنما تُبنى على أساس توازن
المصالح . أما في الشأن الداخلي فيجب الاعتماد على مبدأ الديمقراطية الحقيقية التي تعني حكم الأكثرية من خلال صناديق الاقتراع التي بموجبها تتحدد مواقع الرئاسات الثلاث وأعضاء البرلمان من خلال التصويت الحر والعمل على تقوية المركز ليبقى العراق على هيبته أمام دول العالم عند إصدار القرارات ذات البعد الإستراتيجي والسيادي ، فتحصل علاقة جدلية بين ما هو مقبول ومسوغ استخدامه في الميدان السياسي وبين ما هو مرفوض يستحق اللوم والتأنيب ؛ لوم الشعب وتأنيب الضمير في حال الأخذ بمبدأ التوافق ، وهنا يدفع بعض السياسيين التفكير في استخدام مبدأ التكنوقراط في الحكم الذي يبدو من استقراء تاريخه أن مفهوم التكنوقراط قد أوقع الكثير من المثقفين سواء كانوا من السياسيين أو غيرهم في حيرة ، فمنهم من اعتبره نمطا سياسيا أجرائيا يمكن حكم البلاد بدلا من رجال السياسة أو من رجال الأحزاب ومنهم من اعتبره وليد خبرة علمية عملية يخلو من علوم السياسة ويكون حكمه ضمن اختصاصه ، لذلك فقد تطلب الأمر الكشف عن هذا المفهوم وتفكيكه بغية بيان مدى صلاحية تطبيقه في الحياة العملية . وعند استقراء التاريخ نجد أن كلمة (تكنوقراط) هي كلمة مشتقة من (تكنو ، وتعني التقنية) و (قراط ، وتعني الحكم) وهذا يعني حكم الطبقة العلمية الفنية المتخصصة والمثقفة ، لأنهم النخبة التي تستطيع وحدها حكم العالم واعتبار الآخرين أقرب للبهائم من الإنسان حسب رأي هذا التيار .. فهي نظرة متعالية فوقية . وبالرغم من أن التكنوقراط هم النخب المثقفة والقادرة على إدارة الأعمال المتخصصين بها بكل جدارة واقتدار ألا أنهم يحتاجون إلى ممارسات سياسية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان ولهم إلمام في صياغة المناهج وفق الأنساق العلمية ، حتى يحصل التماهي بين الخبرة العملية والسياسة وبمعنى أدق هو ملاقحة الواقعية التطبيقية مع علوم السياسة ، لأن تطبيق الفكر الواقعي التطبيقي (التكنوقراط) وحده يوقعنا في مستنقع البركماتية ، والسياسة وحدها توقعنا في دوامة أللوم والتأنيب : لوم المجتمع وتأنيب الضمير، لأنها ستتخذ طابعا مثاليا . وبالمماهات ينتظم الواقع ، لكن بشرط عودة العقل وانتصاره على السلطة ، وإلا سيتحول هذا الحكم إلى نمط من الحكام الذين لن يأتوا من صفوف الأحزاب العقائدية والذي بالتأكيد يزخر فيها الكثير من رجال التكنوقراط ، بل من عالم الأعمال ، عالم الشركات متعددة الجنسيات وعابرة للقارات ، عندها تكون حقبة جديدة من تاريخ الاستغلال والاضطهاد الدولي . وبالتالي الإطاحة بالدولة الوطنية وتحويلها إلى نظام دكتاتوري غائي نفعي . وعليه أجد أن نتعامل مع الواقع السياسي من خلال المحاور الأربعة للإصلاح .
المحاور الأربعة للإصلاح
المحور الأول : يتعلق بإحياء مفهوم المواطنة وتحديث بنية العلاقة بين المواطن والحزب أو التيار ، حيث ينطوي مفهوم الحزب للمواطنة علي فكرتين أساسيتين ؛ الأولى هي عقد اجتماعات دورية مع المواطنين من خلال كوادر الحزب المؤهلين بقيام مهمة تثقيف المواطن وإفهامه من أن الدولة هي المسؤول الأول عن توفير مناخ وبنية سياسية وتشريعية وإدارية تمكن المواطن من أداء دوره المنشود في عملية التنمية الاقتصادية . والثانية يؤكد الحزب باعتباره كيان معنوي حاكمي مستقل أن تبقى علاقته بالمواطن من خلال مساعدته في إنهاء معاناته اليومية علي يد أجهزة الدولة وعلى سبيل المثال منها ؛ تبنيه في إنهاء وتسوية الخصومات القضائية بين الدولة والمواطنين والتي قد تبلغ ما يقارب الآلاف من القضايا ، كضحايا العنف الذي حصل خلال السنيين السابقة والتي قد تحصل بسبب الصراعات السياسية الذي لا يد للمواطن بها ، وكذلك التأكيد والمتابعة الجادة والمسؤولة على تحديث وتطوير الخدمات المقدمة للمواطنين عبر تسهيل عملية الحصول علي التراخيص واستخراج الأوراق الرسمية ، من خلال أنشاء الحكومة الإلكترونية وتحسين علاقة المواطن بمؤسسة الشرطة من خلال التوعية بثقافة حقوق الإنسان ورفع كفاءة الشرطة وتحسين نوعية التعامل مع المواطنين ، وتحديث نظام الإدارة المحلية . ووضع خطة أو على شكل مقترح بشأن إيجاد فرص عمل للقضاء على البطالة وتحسين معيشة المواطن بما يضمن تحقيق النزاهة والقضاء على الفساد الإداري والمالي وإيجاد قاعدة اقتصادية صلبة لتحقيق النمو الاقتصادي والبشري . كل هذا سيؤدي إلى استقطاب المواطنين للانضمام إلى هذا الحزب أو ذلك التيار أو فرض ولائهم إليه
المحور الثاني : يتعلق بما سمى بالعدالة الناجزة للمواطنين وهي التأكيد والمتابعة بشأن إجراء عدد من الإصلاحات التشريعية تتضمن تيسير قواعد وإجراءات التقاضي ، ومراجعة قانون العقوبات لتدعيم ضمانات حقوق الإنسان ، وتعديل قانون التقاعد بما يضمن للمتقاعد العيش الرغيد ، وإصدار تشريع لحماية حقوق المستهلك ، وفق خطة متوازنة بين نظام السوق الحر ونظام رأسمالية الدولة .
المحور الثالث : يدور حول تحديث البنية الثقافية ، وذلك وفقا لمنظومة قيمية إنسانية ترتكز على مركزية الهوية العراقية المركبة ، وعلي قيم الوسطية
الإيجابية ، وتدور هذه المنظومة حول ما يسمى بالقيم الثقافية الدافعة إلى التقدم والنهضة ، والتي تستند على العلم والتفكير العلمي والعقلاني كمنهج للتقدم ، والتعددية الإيجابية التي تشجع علي التقريب والإبداع ، وتعزز الحوار والتسامح والابتعاد عن الخطاب التقليدي أو تطويره بما يلاءم تطور الحياة وعدم ممارسة مفاهيم العزلة والانغلاق سواء كان فكرا دينيا أو لبراليا ، لأن فصل المسؤولية عن العلم والدين أو فصل الدين عن السياسة والدولة ، هي بالأصل حيلة من القوى المتسلطة على البشرية ، حتى يحرم الإنسان من أعظم الثروات وعوامل الخلاص والرفاهية والتقدم وطرد العلماء ، وهم من أعظم ثروات المجتمع ، خارج قلب المجتمع ويدفعون بهم إلى نوع من الابتعاد والانزواء باحترام ، وعلى هذا الأساس حتما أن مهمة العالم وخصوصا رجل الدين يجب أن تكون العمل على تغيير العالم وليس تفسيره وحتى لو كان في ظل هذا التخبط ومحاور الصراعات السياسية وذلك بنزوله إلى الشوارع وقيادة الجماهير وأن لا تبقى مهمته محصورة في إطار التنظير من برج عاجي ، وإنما لزاما على العلماء أخلاقيا وشرعيا أن يبحثوا بالحوادث المستحدثة والناجمة عن تطور العصر ويطرحونها على أساس المعايير العلمية والعملية والمعرفية وأن يقدموا الحلول والإجابات عليها بما يتلاءم وتطور التاريخ وبرؤية إسلامية جديدة ، كي لا تصاب أذهاننا بالانحراف ولا قصور في فهمنا لمشاكلنا ؛ وخير مثال الممارسات الميدانية التي قدمها شهيد العراق السيد عبد العزيز الحكيم قدس سره الشريف وسار على هداه السيد عمار الحكيم أدام الله ظله ، لأن الجماهير إذا لم تراه أمامها فسوف تغض الطرف عنه وتبتعد عن المشاركة الفاعلة وتقديم العطاء والتطوع في بناء منظومته السياسية وبالتالي عدم المشاركة في بناء المجتمع ، لأن العلماء والمفكرين الأحرار ليسوا إلا أسطورة ، فأما ينبغي أن يرتبطوا بالخلق ويكونوا على أهبة الاستعداد لخلاصهم أو يرتبطوا بأعداء الناس وأعداء الفضيلة والحرية الذين يحاولون جاهدين أبعاد رجل الدين من أن يسعى للحكم أو يعمل بالسياسة وهو المؤمن بقيم السماء والعارف من أن الإصلاح لا يتم إلا في ظل تحول سياسي وثقافي مبني على المواطنة الصالحة ، استنادا إلى افتراض أن التعجيل بالإصلاح السياسي في ظل مناخ ثقافي تسود فيه قيم الانغلاق على الذات ، قد يتمتع فيه التيار الشمولي الدكتاتوري ثانية بقدرة تعبوية وتنظيمية عالية سيكون له عواقب وخيمة قد تؤدى بالعراق بالرجوع إلى المربع الأول ، ولكن هذا لا يعني إعفاء المواطن العادي من تحمل مسؤوليته كل من موقعة في المجتمع ، لأن المسؤولية موضوعة على كواهل الجميع ، روحا وجسدا (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) وقوله تعالى : (إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا) . إذن ليست المسؤولية خاصة بالقائد وليست خاصة برجل الدين المستنير ، وإنما بالأجمال كل فرد مسؤول عن قيادة المجتمع ؛ وهذا يعني تكون المسؤولية تضامنية مشتركة ؛ مع علمنا من أن مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء . ومن هذه الرؤية بالإمكان سد الطريق على الشيطان من أن يلقي اُمنيته في عقول ونفوس بعض الناس من عودة عهد الصنم وهذا فعلا ما لمسناه في السنتين الماضيتين من تمني بعض الناس بالرجوع إلى حكم الدكتاتورية ثانية ، وهذا ما لا نبغاه كعراقيين أحرار من تقويض العملية السياسية المتمثلة بالنظام الديمقراطي الخالي من العنف المرتكز على انتقال السلطة عن طريق صناديق الانتخابات وكذلك منع عودة التدخلات الخارجية في الشأن الوطني من خلال النقر على وتر الطائفية وتخويف وترهيب المواطن من قوة التيارات الإسلامية المعتدلة المبنية سياستها على عدل السماء .
المحور الرابع : احتضان مؤسسات المجتمع المدني وتفعيل دورها في مسيرة الإصلاح وكسب الكوادر الجيدة ثقافيا واجتماعيا وإزالة العقبات التي تواجه نشاط منظمات المجتمع المدني لتمكينها من تعبئة المواطن للمشاركة وتعميق عملية التحول الديمقراطي على أن يتم ذلك وفق منهجية تبعد العراق من خروقات غير مشروعة قد تؤدي إلى الوقوع في تدمير البنية التحتية للأحزاب العريقة وجعلها ممرا لغسيل الأموال والتآمر على تقويض العملية السياسية وبالتالي يسهم فيما بعد بتقويض العملية الاقتصادية والاجتماعية ويكمن عمل مؤسسات المجتمع المدني في تفعيل عمل النقابات والجمعيات المهنية وسن القوانين اللازمة ، بحيث تتفق وفق هذه المرحلة ، مرحلة ما بعد التغيير عام ٢٠٠٣ وما أفرزته المرحلة اللاحقة للسنوات السبعة الماضية من عمر التغيير .
الخاتمة
وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون السلوك السياسي للأكثرية في وقتنا الحاضر بان تقوم على الموازنة بين القدرات الذاتية من جهة وإمكانية تحقيق الاختراق للمجتمع من جهة أخرى والوصول إلى السلطة على أساس التدرج غير الخجول والمتردد في الخطوات سبيلا لتحقيق الأهداف في أن يكون قرارها مستقلا ومؤثرا ويخدم كل الشرائح للمجتمع على حد سواء ضمن مفهوم
(الحقوق والواجبات والنجاحات المعرفية وفقا للقوانين المرعية) ، بعد تفريغ شحنة الكراهية المتولدة من الماضي وتعزيز عالم الحرية والقانون والإخاء والمساواة وتحقيق فردوس اللاطبقات ونعيم الحكم الإسلامي ، لان مفهوم الدولة للتنمية لا يعنيها إن كانت إسلامية أو مسيحية أو عربية أو كردية أو شيعية أو سنية بل هي تعتبر دنيوية تجريبية تعتمد على خطط تنموية خمسية أو غيرها من
التسميات ، أي أن ثروة البلاد تكون للجميع دون تمييز ، والذي يجب أن تخضع لمعايير وطنية عادلة وأن تكون الطموحات على مستوى تشكيل دولة
(إسلام الفقراء) ومبنية على ثالوث فكري (الملاقحة والوسطية والنسبية) . أي تكون السلطة في ظل حكم الأكثرية وبجانبها معارضة بناءة لمراقبة أعمال الحكومة وتعد بذلك أفضل صور المشاركة وأكثرها فاعلية ، ولكن تبقى الغاية هو تطوير السلطة من خلال عودة العقل وانتصاره عليها في إدارة دفة الحكم وتطوير مناهجها وصيانة أدواتها ومحاكاة إيجابيات الحداثة ومماهاتها مع تراثنا الإسلامي وقيمنا الإنسانية .
الاستنتاجات
يمكن القول أن هذا البحث توصل إلى نتائج ذات أهمية في إشكالية المسار الديمقراطي في العراق وقصور الأكثرية من تكوين كيان معنوي حاكمي قوي ومتماسك يستطيع تأمين استمراره في البقاء لإدارة الدولة بكل جدارة وقدرة والحفاظ على وجوده وقدرته على صيانة مكتسباته :
١. على الأكثرية توحيد قدراتها ورص صفوفها ونبذ الخلافات ، والتعامل على فك الاختلافات وتحليلها تحليلاً جدليا لصالح الكيان والعراق معا للوصول إلى التعامل على أساس الندية في السياسات الداخلية والخارجية ووفق مبدأ العدل والمساواة لضمان كسب ثقة الشعب العراقي بكل أطيافه وتأسيس مصداقية الممارسة والتطبيق للديمقراطية الحضارية التي تعني حكم الأكثرية ومشاركة الأطياف الأخرى وكذلك كسب العالم بأسره .
٢. وما طرأ على العالم من تغيير في المفاهيم الذي يتطلب المقاربة مع إيجابياتها أو محاولة أسلمتها كمفهوم اللبرالية وجعلها مفهوما نسبيا ينحصر معناها في أن كل فرد في مجتمعه حر وأن حريته تنتهي عندما تتجاوز حرية الآخرين ، أي أنها حرية مقيدة بقوانين حقوق الإنسان وبتراثنا الاجتماعي والديني . وكذلك مفاهيم الحداثة التي تعني تحديث كل شيء والتي لها مقاربة شديدة مع مفهوم المصطلح الإسلامي (التجديد) النابع من الحديث النبوي : (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأُمة أمر دينها) وفي هذا السياق يتعين وضع مطلب الإصلاح الديني وتجديده ضمن منظور مبدأ الاجتهاد المفتوح الذي يتجاوب مع طموح متنام وضروري لدى علماء الإسلام ومفكريه والذي يعني تليين النص ومده في المرتقى الحضاري . وهو تعريف يتعاصر مع مفهوم الحداثة ، لأن كل من التراث والحداثة قد يوفرا على صعيد الأعراف والمفاهيم والتشكيلات بعض المقدمات الديمقراطية كالحريات العامة وتداول الرأي . أو الاتكاء على مبدأ التقية لتتمكن الأكثرية من مسك زمام الأمور وقيادة الأمة وفق مبدأ العدل والمساواة .
٣. ثبت فشل حكم المحاصصة الطائفية والتوافقية التي من أهم سماتها إعاقة النمو الاقتصادي من خلال تكبيل يد الحكومة وإجبارها على لعب دور المساومات والتستر على المفسدين .
٤. تقتضي الحاجة من الحزب أو التيار أن يجدد من إستراتيجيته أي بتليين أيديولوجيته بما يتلاءم ومتطلبات المرحلة فأنني أرى بأن الثورة الدائمة على حالة الفساد وعلى قُصر تقديم الخدمات إعلان لوجود العقل وهي حالة وعي عالي التركيز على التمرد حتى نصل إلى القول (أنا أتمرد إذن أنا موجود) وقد اتضحت معالمها من خلال الممارسات العملية لثورتي تونس ومصر. وإلا يصبح التغيير متعثرا وقد يصل إلى الموت ألسريري وتتداخل المصالح السلطوية ؛ ونكون خارج مفهوم الواقعية التطبيقية للسياسة المتماهية مع المُثل الملتزمة مُثل السماء وقوانين علم النفس البشري وما جُبل عليه الإنسان من عادات وقيم بغية عبور هذه المرحلة .
٥. انتهاج مبدأ تصنيف النظام السياسي على أساس شكل النظام الحزبي فيه ، بوصفه مدخلا صادقا لدراسة كل متغيرات وخصائص العملية السياسية ويعكس حقيقة الإيديولوجية الحاكمة من حيث درجة انفتاحها أو انغلاقها على الأخر أو بمعنى أخر من منطلق الأخذ بالنظام الحزبي بوصفه معياراً لتصنيف الدول وينحصر دورها في تفعيل المداليل الاجتماعية في زيادة الوعي بكل أشكاله ومحاكاة هموم الناس وتتولى في الوقت ذاته تحجيم سيطرة الدولة العمياء واختراق منظمات المجتمع المدني المتمثلة بالمنظمات والاتحادات المهنية وحتى المنظومة القبلية .
٦. إن حالة الجمود التي تعاني منها الأكثرية في معظمها من أزمات بنائية تتعلق بغيابها من الأصل عن الجمهور واكتفائها فقط على كوادرها المعينة لديها ، فهي تمثل مجرد مقار وعشرات الأعضاء ، دون أي تأثير حقيقي في الشارع السياسي ، وذلك بسبب أن نشأتها جاءت نتيجة لإجراءات إدارية قام بها المؤسسون وليس بين الجماهير في الحي والمدينة ثم على امتداد الوطن كله . ولعل محاولة كسر هذا الجمود في المشهد السياسي ، هو رأب الصدع بين المواطن من جهة والأكثرية من جهة أخرى ، وإلى بناء قاعدة جديدة لها في صفوف الشباب والمرأة والمجتمع المدني وتحديث الكوادر باستمرار لإعطاء أحزابها دم جديد لإخراجها من حالة الركود وبخلافه قد يصل بها إلى الموت ألسريري ، وكذلك إشعار المجتمع على التطبيق الجدي للثالوث الفكري (الملاقحة ، النسبية ، الوسطية) إضافة إلى ما ورد من مبادئ ضمن المحاور الأربعة للإصلاح وعلى سبيل التنويه هو التأكيد على الممارسات الميدانية من قبل الكوادر المتقدمة وخصوصا الرأسية منها لكسب ثقة الشارع وكسب كوادر جديدة وجيدة ، لأن الجماهير إذا لم تراه أمامها فسوف تغض الطرف عنه وتبتعد عن المشاركة الفاعلة .
عدنان مهدي الطائي
٢٢/٤/٢٠١٢