النماذج الأخلاقية في نهضة عاشوراء
سعيد العذاري
الاول: تقديس الكعبة
الكعبة رمز الإسلام وقبلة المسلمين وهي محل اعتزازهم ومصدر عزّهم، ولـها حرمة في قلوبهم وضمائرهم، وقد جسّد الإمام الحسين (ع) حرمتها وكرامتها في موقفه الشريفة وخُلقه القويم. وقد جدّ في السير خارجاً منها لئلا يكون قتلـه فيها سبباً لانتهاك حرمتها. قال لأخيه محمد بن الحنفية: ((يا أخي خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت)) .
وقال لعبد اللـه بن الزبير: ((يا ابن الزبير لئن اُدفن بشاطئ الفرات أحبّ إليّ من أن أدفن بفناء الكعبة)) .
وقال: ((إنّ أبي حدثني أنّ لـها كبشاً به تستحل حرمتها فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش، واللـه لئن أقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليّ من أقتل فيها، ولئن أقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ أليّ من أن أقتا خارجاً منها بشبر)) .
الثاني: أخلاقية الإعلام والدعاية
امتاز الاعلام الحسيني في عاشوراء بالصدق والصراحة والواقعية، ولم يُمارس فيه الخداع والتضليل، وإنّما ركز الامام (ع) على وقائع معلومة للجميع غير خافية على أحد، واستمر الامام (ع) على ذلك في جميع مراحل الثورة وخطواتها ومجالاتها.
ففي جوابه لأمير المدينة يقول: ((إنّا أهل بين النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، وبنا فتح اللـه وبنا ختم اللـه، ويزيد رجل فاسق شارب الخمور، قاتل النفس المحرّمة، معلن الفسق؛ ومثلي لا يبايع مثلـه)) .
وحدّد أهداف ثورته بصراحة وصدق قائلاً: ((واني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب)) .
ولم يخف الأحداث على أتباعه وكان يخبرهم باستمرار أنه سيستشهد ويُقتل، ولما أتاه خبر مقتل مسلم بن عقيل أعلم أصحابه ذلك وقال: ((...فمن أحبّ أن ينصرف فلينصرف ليس عليه ذمام)) .
وتجسدت أخلاقية الإعلام في خطابات أصحاب الحسين (ع) للجيش الأموي فلم يستخدموا اللف والدوران والتدليس في طرح الحقائق، وإنّما عرضوا نصائحهم وآرائهم واضحة لا لبس فيها ولا غموض. وبعد قيام المرحلة الثانية من النهضة الحسينية، استخدم الإمام علي بن الحسين (ع) والعقيلة زينب أسلوب الصدق والصراحة في مجلس عبيد اللـه ويزيد.
الثالث: نكران الذات
وهو من ابرز الصفات الخلقية التي اتصفت بها النهضة الحسينية، على مستوى القيادة والطليعة المؤمنة من أهل البيت والأنصار، فجعلوا العقيدة والمسؤولية الشرعية فوق ذواتهم، ولم يُبقوا لذواتهم أي شيء سوى الفوز في السعادة الأبدية، فالإمام الحسين (ع) جعل المبادئ فوق كل الاعتبارات، فيقول (ع): ((فمن قبلني بقبول الحق فاللـه اولى بالحق)) .
وكان الإيثار هو الخلق القويم الذي اتبعه الناهضون، فقبل المعركة وصل بُرير ومعه جماعة الى النهر، فقال لـهم حماة النهر ــ بعد أن عجزوا عن قتالـهم ــ اشربوا هنيئاً مريئاً ولا تحملوا قطرة من الماء للحسين، فكان جوابهم: ((ويلكم نشرب الماء هنيئاً والحسين وبنات رسول اللـه يموتون عطشاً، لا كان ذلك أبداً)) .
وفي شدة العطش، وحين وصول العباس (ع) الى الماء رفض أن يشربه وقال:
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعدة لا كنتِ او تكونــي
هذا حسينٌ وارد المنـــــــــون وتشربين بارد المـعــــين
وتنافس أصحاب الحسين (ع) فيما بينهم على التضحية ((فلما راوا أنهم لا يقدرون يمنعون الحسين ولا أنفسهم تنافسوا أن يُقتلوا بين يديه)) .
ورفض العباس واخوته الأمان الذي جاء به شمر وقالوا لـه: ((لعنك اللـه ولعن أمانك)) .
وتجلت قمة الإيثار في موقف مسلم بن عوسجة حينما طلب الإمام (ع) من أنصاره الانصراف فقال: ((واللـه لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيّاً ثم أذرّى سبعين مرة ما فارقتُك حتى ألقى حمامي دونك)) .
وترى الإيثار في موقف النساء، فزوجة زهير بن القين هي التي شجعته على الانتماء الى معسكر الحسين (ع) وهي تعلم بمقتلـه، وأم عبد اللـه بن عمير الكلبي حينما عاد ولدها سالماً من المعركة دفعته ثانية قائلة لـه: ((فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين ذرية محمد...لن أدعك دون أن أموت معك)) .
الرابع: الإنسانية والرحمة بالأعداء
جرت العادة في اغلب الثورات أن الثوار في حالة الـهياج الثوري يغفلون أحياناً عن قضية الرحمة والعطف بأعدائهم وخصومهم، لأنهم يريدون الوصول الى أهدافهم بأسرع وقت وبأقل التكاليف، لكن الإمام الحسين (ع) لم يفعل هذا، وقد رافقته الرحمة والعاطفة على الذين وقفوا أمام مسيرته، لأن هدفه الـهداية والإصلاح لا الانتقام لذاته؛ وحب الخير للبشر، لا الحقد على الذي آذوه؛ وتحطيم الحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس، لا حبا للغلب والاستعلاء والاستغلال.
أراد الحسين (ع) إعادة الأمة والنظام القائم الى ما كان عليه في عهد رسول الله (ص) ليتمتع الجميع في ظلـه بالعدل والسلام، وتحكيم مبادئ الإسلام في العقول والقلوب والإرادة، ولا يتم ذلك إلاّ بإبرازها في الحياة؛ ولـهذا كانت الرحمة والعطف هي الصفات التي اتصف بها الحسين وأصحابه في التعامل مع مغلوبي الإرادة من الجيش الذي سخره الأمويون لقتال الحسين (ع).
ففي طريقه الى كربلاء التقى بأحد ألوية جيش ابن زياد وكانوا ألف مقاتل مع خيولـهم، وكانوا عطاشى، فأمر أتباعه بسقيهم وقال لـهم: ((اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشّفوا الخيل ترشيفاً)) .
وسقى الحسين (ع) أحد أفراد الجيش بنفسه لأنه كان مرتبكاً من شدة العطش، وكان الماء قد احتفظ به الحسين (ع) لوقت الحاجة، ولكنه أراد تجسيد القيم الإسلامية في الواقع العملي في أروع صورها لأن الـهداية وإصلاح الخصوم أفضل من الانتقام منهم وتركهم يموتون عطشاً.
الخامس: الوفاء بالعهود والمواثيق
الوفاء بالعهود والمواثيق من القيم الأخلاقية الفاضلة لدى كل المجتمعات، وإن لم تتخذ الاسلام منهاجاً لـها في الحياة، وقد وفى الإمام الحسين (ع) بكل العهود والمواثيق التي قطعها مع أصحابه وأعدائه وعموم الناس، فحينما بايعه أهل الكوفة وطلبوا منه القدوم، أرسل إليهم مسلم بن عقيل وقال: ((وإني باعث اليكم بأخي وابن عمي وثقتي من أهلي ((مسلم بن عقيل)) ليعلم لي كُنه أمركم، ويكتب الي بما يتبين لـه من اجتماعكم، فإن كان أمركم على ما أتتني به كتبكم، وأخبرتني به رسلكم أسرعت القدوم عليكم إن شاء اللـه)) .
وبعد وصول مسلم الى الكوفة كتب اليه باجتماع الناس عليه، فقدم الإمام الحسين (ع) الى الكوفة وفاءً بالعهد والميثاق الذي قطعه مع عموم المراسلين لـه. وإن كان يعلم أن مصيره هو القتل ومصير نسائه الأسر والسبي.
وفي طريقه الى كربلاء اتفق مع الحرّ على أن يسايره فلا يعود الى المدينة ولا يدخل الكوفة، وبعد هذا الاتفاق قال لـه الطرماح بن عدي: ((فأسير معك حتى أنزلك القُرَيّة.. فإن هاجك هَيْجٌ فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، فو اللـه لا يوصل إليك أبداً وفيهم عين تطرف)).
فقال لـه الإمام (ع): ((جزاك اللـه وقومك خيراً، إنه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف)) .
فالإمام (ع) وفّى للحرّ بما عاهده عليه ولم ينكث عهده، وإن وجد لـه مبرراً شرعياً، وآثر الوفاء بالعهد على سلامته بالتحصن مع قوم الطرماح.
ووفى الإمام (ع) لمن نصره وقاتل معه، وهو الضحّاك بن عبد اللـه المشرقي، اشترط على الإمام (ع): ((إني أقاتل عنك ما رأيت معك مقاتلاً، فإذا لم أرَ مقاتلاً فأنا في حلّ من الانصراف)). فقال لـه (ع): نعم. فقاتل دفاعاً عن الإمام (ع). ولما رأى ان المقاتلين قد استشهدوا وبقي الإمام وحده، قال لـه: إني على الشرط، فقال لـه: ((نعم أنت في حلّ إن قدرت على النجاة)) .
فالإمام (ع) يستطيع أن يقنعه بالبقاء ولكنه آثر الوفاء بالعهد على ذلك.
والوفاء بالعهد كثيراً ما يتجاوزه قادة الثورات ويتناسون ما قطعوه على أنفسهم لجنودهم او أعدائهم عند اشتداد الظروف، ويرفضون الوفاء بالعهود عند إقبال الصعاب والمواقف المحرجة، ولكن الإمام (ع) وفّى بها في أحلك الظروف لأن هدفه انتصار قيم الإسلام لا الانتصار العسكري الآني الذي قد يبيح المحظورات.
السادس: حفظ الذمام والاستجارة
الثورة الحسينية لـها مراحل ابتدأت من رفض بيعة يزيد واستمرت بعد مقتل الحسين (ع)، وفي اوائل مراحلـها، حافظ الثوار على مفاهيم الذمام والاستجارة ومنهم هاني بن عروة الذي ضحى بحياته من أجل حفظ ذمام مسلم بن عقيل؛ فحينما طلب منه ابن زياد أن يأتيه بمسلم قال: ((واللـه لو كان تحت قدمي ما رفعتها عنه)) .
وفي رواية أخرى: ((في ذلك الخزي والعار أن ادفع جاري وضيفي وأنا حي صحيح)) .
فهاني بن عروة يستطيع مخادعة ابن زياد ويقبل قولـه ثم يتخلى عن ذلك، ولكنه أراد أن يسطر موقفاً نبيلاً يبقى صداه على مر الأجيال.
وفي امتداد مراحل الثورة الحسينية، وفي هجوم المسلمين على الأمويين في المدينة كلّم مروان بن الحكم علي بن الحسين (ع) حول عائلته (فقال نعم، فضمهم علي اليه، وبعث بهم مع عيالـه) .
فالإمام علي بن الحسين (ع) قائد المرحلة الثانية من النهضة الحسينية يجير عائلة أعداء أهل البيت (ع) وهو الذي أشار على والي المدينة بقتل الحسين إن لم يبايع فلم يقابلـه الإمام (ع) بنفس الأسلوب وإنّما أجار عائلته وحافظ على سلامتها من الـهجوم الغاضب الذي قام به أهل المدينة.
السابع: أخلاقية العلاقات
في كل نهضة هنالك قيادة وطليعة وقاعدة ترتبط بروابط مشتركة من أهداف وبرامج ومواقف، والقيادة دائماً هي القدوة التي تنعكس أخلاقها على أتباعها، وتجسدت وحدة الأخلاق الفاضلة في نهضة عاشوراء، في العلاقات والروابط، حيث الإخاء والمحبة والتعاون والود والاحترام بين القائد وأتباعه، وبين الأتباع والقائد، فالأتباع ارتبطوا بالقيم والمثل الرفيعة، ثم ارتبطوا بالقائد الذي جسدها في فكره وعاطفته وسلوكه، فالإمام الحسين (ع) لم تكن علاقته بأتباعه علاقة الآمر بالمأمورين، ولا علاقة القائد العسكري بجنوده، وإنما كانت علاقات الحب والود والاحترام، فالأتباع يتلقون النصائح لا الاوامر بقبول ورضى وطمأنينة ويرون للطاعة ذوقاً وطعماً جميلاً.
فالإمام الحسين (ع) يخاطب حامل لوائه وهو العباس: ((يا عبّاس اركب بنفسي أنت)) .
ويخاطب أتباعه قائلاً: ((قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم)) . ويخاطبهم في وسط الحشود الكبيرة وهم قلّة قليلة: ((صبراً بني الكرام فما الموت إلاّ قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضرّاء الى الجنات الواسعة)) .
وجرت الطبيعة البشرية على أن ينسى القائد في مرحلة الصراع الدامي العناصر غير البارزة من اتباعه ويهملـهم وينشغل عنهم بكبار الشخصيات او من لـه علاقة قربى به، ولكن في النهضة الحسينية لم يحدث ذلك، فالإمام (ع) يأذن لجون مولى أبي ذر الغفاري بالانصراف وترك نصرته فيقول جون: ((يا ابن رسول اللـه أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم...لا واللـه لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم))، فيأذن لـه بالقتال وحينما يُقتل يقف عليه الإمام ويقول: ((اللـهم بيّض وجهه، وطيّب ريحه، واحشره مع الأبرار، وعرّف بينه وبين آل محمد)) .
وحينما قُتل واضح التركي وهو غلام لأحد أصحاب الحسين ((اعتنقه الحسين وهو يجود بنفسه، فقال: من مثلي وابن رسول اللـه واضع خده على خدي)) .
وفي مقابل علاقة القائد بأتباعه، نجد علاقة الأتباع بقائدهم، فهم لا يعملون عملاً إلاّ بالاستئذان منه، حتى في القتال، فلا يقاتلون ما لم يأذن لـهم، ورفضوا الانصراف عنه وهو يدعوهم إليه.
الثامن: مراعاة العواطف والأحاسيس
في أغلب، بل في جميع النهضات الثورية يطغى الغضب والحماس على قادتها, فلا يعيرون للعواطف والأحاسيس أية أهمية، لأنهم يرونها مانعاً ومعوقاً للنجاح والانتصار؛ ولكن في عاشوراء احتفظ الإمام الحسين (ع) بالاهتمام بها ومراعاتها، فحين خرج عمرو بن جنادة الأنصاري يستأذنه في القتال وهو ابن إحدى عشرة سنة، بعد أن قُتل أبوه فلم يأذن لـه وقال: ((هذا غلام قُتل أبوه في الحملة الاولى, ولعل أمه تكره ذلك)) فقال ذلك الغلام: إنّ أمي أمرتني، فأذن لـه .
التاسع: احترام وشائج القربى
في حالات الصراع الساخن يغفل القائد وشائج القربى ويتجاهلـها، وخصوصاً إذا كان الطرف الآخر لا يراعي حرمة ولا ذمة، وليس فيه خير يُرتجى، فتكون القطيعة التامة بين أطراف الصراع؛ ولكن الإمام الحسين (ع) راعى وشائج القربى وإن كانت ضعيفة، حفاظاً منه على المفاهيم والقيم التي ضحى من أجلـها، فحينما صاح الشمر بن ذي الجوشن: أين بنو اختنا؟ أين العباس وأخوته؟ فأعرضوا عنه ولم يجيبوه،قال لـهم الحسين: ((أجيبوه وإن كان فاسقاً)) فأجابوه فقال لـهم: أنتم آمنون، فقالوا لـه: ((لعنك اللـه ولعن أمانك أتؤمننا وابن رسول اللـه لا أمان لـه)) .
فالإمام (ع) احترم وشائج ا لقربى بين إخوانه لأبيه وبين شمر وهو المنتسب الى كلاب إحدى القبائل التي تنتمي إليها أمهم، على الرغم من فسقه وتحريضه على قتل أهل البيت (ع).
العاشر: قبول توبة المخالفين والعفو عنهم
نهض الإمام الحسين (ع) من أجل إصلاح الانحراف الذي أبتليت به الأمة في جميع مرافق حياتها، على مستوى الحاكم ومؤسساته والأمة المحكومة بحكمه، وأراد أن يعيد الأمة الى الـهداية والرشاد بسفك دمه ليكون بركاناً يحيي إرادتها ويحررها مما طرأ عليها من انحراف وابتعاد عن قيم الإسلام ومبادئه، فهدفه الإصلاح والـهداية، لذا كان ينصح الجيش الأموي بعدم الإقدام على قتلـه طاعة للطغاة, ولذا فهو (ع) يفتح صدره وقلبه لمن يعود الى رشده، فالحر الرياحي منع الحسين (ع) من دخول الكوفة، ولو دخلـها لتغيرت الأحداث، ومنعه من سلوك أي طريق آخر، ومنعه من النزول قرب الماء، ومع كل إحسان الحسين (ع) لـه بسقيه وجيشه الماء يضعه في زاوية حرجة، ولكن مع كل ذلك حينما يعود الحر الى رشده ويندم على موقفه، ويعتذر الى الحسين (ع) يقابلـه الحسين برحابة صدر وعواطف نبيلة ويرحب به ويعفو عنه ويقبلـه في صفوف الثوار ثم يقف على جثمانه ويقول: (( ما أخطأت أمك إذ سمتك حرّاً، فأنت حر في الدنيا وسعيد في الآخرة)) .
وهذا الموقف ينفرد به الحسين (ع) ونهضته الخالدة, فالغالب على قادة الحركات أنهم لا يواجهون من كان موقفه منهم مثل الحر بهذا الخلق النبيل؛ خصوصاً وأنّ عرض نصرته بعد التوبة لا يؤثر على سير المعركة باعتباره فرداً واحداً, لأن ما عملـه لا يُنسى ولكن الحسين (ع) قبِل توبته لأنه جاء للإصلاح والـهداية، لا للانتقام والتشفي.
الحادي عشر: رفض الفتك
إنّ نهضة الحسين (ع) لم تكن سورة غضب او عملاً ارتجالياً، او ثورة محدودة الأهداف ضمن مرحلة من مراحل التاريخ، وإنّما كانت نهضة للأجيال على مر التاريخ ليستفيئوا بظلـها ويهتدوا بتعاليمها، فلم يفكر الحسين (ع) بالمرحلة الزمنية التي يعيشها، ولو كان يفكر في ذلك لاختار أساليب أخرى يمكن من خلالـها تغيير الموازين العسكرية والسياسية، ولكنه كان يفكر ويخطط للأمة الإسلامية في جميع مراحل حياتها وكذلك أتباعه ومساعدوه، وأحدهم مسلم بن عقيل سفيره الى الكوفة، فإنه رفض قتل ابن زياد في دار هاني بن عروة وقال: ((إنّ الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن)) .
وإن صحّت الرواية فإنها لا تُحمل على ظاهرها، لأن الفتك في مثل ابن زياد لا حرمة فيه لأنه من الطغاة المشهورين, وانه يستحق القتل لقتلـه بعض المسلمين في البصرة والكوفة، إضافة الى ذلك فإن قتلـه يغير الموازين لصالح الثوار، ولكن مسلماً لم يفكر في المرحلة الآنية، ولذلك لم يقدم على قتلـه، فقتل ابن زياد بهذه الطريقة لا تليق بشأن مسلم ولا بشأن سفارته، وإن كان قتلـه لا حرمة فيه، فمثل هذه الأعمال لا يقوم بها القادة، والمجتمع لا يستسيغ لـهم ذلك، إضافة الى ذلك إن مهمته ليست القتال وإنما متابعة سير الأحداث وإبلاغها للحسين (ع). وعدم الفتك والقتل غيلة من الصفات التي انفردت بها النهضة الحسينية.
ولا تزال الأجيال تقدر هذا الموقف وتميز بين منهج الحق ومنهج الباطل من خلال المواقف التي اتخذوها.
الثاني عشر: مواساة القيادة لأنصارها
المسؤولية تقع على كاهل القيادة قبل أنصارها، ولذا تحمّل الحسين (ع) الثقل الأكبر منها وشارك أنصاره في آمالـهم وآلامهم، وكان هو المتقدم دائماً في المواجهة، ولم يحجّم دوره فقط في إصدار الاوامر والتعليمات ثم الانفصال عن أنصاره في بعض جوانب التضحية، بل واساهم وشاركهم وسبقهم في ا لتضحية والفداء بكل ما يمتلك من إمكانيات، فهاجر من مدينة جده قاطعاً المسافات الشاسعة وترك كل شيء، وأقدم بأموالـه وعيالـه وأطفالـه ليضحي بها وبنفسه من أجل إصلاح الأمة وإرشادها، فكان المتقدم على أنصاره في العطاء للإسلام، وقد أعطانا درساً أخلاقياً في قولـه: ((نفسي مع أنفسكم وأهلي مع أهليكم، فلكم فيّ أسوة)) .
الثالث عشر: صيانة المرأة
النهضة الحسينية شاركت فيها النساء الى جانب الرجال، ولكل منهم دوره، وقد احترم الإمام الحسين (ع) دور المرأة اللائق بشأنها، ووضعها في مكانها المناسب، ورعى أحاسيسها ولم يصطحب معه النساء إلا لإكمال مسيرة النهضة عن طريق إبلاغها الى مسامع المسلمين، مع الحفاظ في كل ذلك على العفة والوقار والحجاب الكامل, ولـهذا رفض دخول بعضهن الى ساحات القتال، والتعرض بالقتال للرجال، فأم وهب الكلبي أخذت عموداً وخرجت تقاتل فأرجعها الإمام (ع) وقال لـها: ((ارجعي يا أم وهب، أنت وابنك مع رسول اللـه، فإن الجهاد مرفوع عن النساء)) .
وأم عمرو بن جنادة استشهد زوجها فدفعت ابنها للقتال فقُتل، ثم أخذت عموداً وأنشأت تقول:
إني عجوز في النــسا ضعيفـة خاوية بالية نحيــــــــفة
أضربكم بضربة عنيــــــــــفة دون بني فاطمة الشريفة
فردّها الحسين (ع) الى الخيمة بعد أن أصابت رجلين.
الرابع عشر: كراهية البدء بالقتال
النهضة الحسينية نهضة هداية وإصلاح للأمة التي غلبها الطغاة على إرادتها، فأصبحت وقلوبها مع الحسين وسيوفها عليه نتيجة لأجواء الإرهاب والخداع والتضليل والإغراء التي خلقها معاوية ومن بعده يزيد.
فالحسين لم يأت للانتقام والتشفي، وانما للإصلاح والتغيير، وهو لم يقاتل كفارأ، وانما مسلمين, يتبنون الاسلام قاعدة فكرية ومنهاجاً للحياة، ولكن الانحراف قد طغى على الأمة نتيجة لانحراف الحاكم ومؤسساته، ولـهذا كان القتال هو نهاية المطاف بعد أن عجزت الوسائل السلمية وبعد أن وصل قائد الانتفاضة والنهضة الى طريق مسدود، فإما الذل بالركون الى الطغاة، وإما العز بالدفاع عن القيم والمبادئ الإسلامية؛ والحسين رفض الابتداء بالقتال وإن كان في صالحه لو كان يفكر بالمرحلة الراهنة التي يعيشها، فقابل اول طلائع الجيش الأموي، وكان الجيشان متكافئين من حيث العدة والعدد، قبل أن يأمر المرافقين لـه بالتفرق، ولكنه رفض قتالـهم حينما طلب منه زهير بن القين ذلك: ((وإنّ قتال هؤلاء الساعة أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعدهم ما لا قبل لنا به)). فقال الحسين: ((ما كنت لأبدأهم بقتال)) .
وقبل بدء القتال وقف شمر أمام معسكر الحسين وبدأ يكيل السباب والشتم للحسين، فأراد مسلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، فقال الحسين: ((لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم)) .
وفي ميدان المعركة حذّر الحسين الجبهة المقابلة من إقدامهم على القتال، وألقى عليهم الحجة تلو الحجة على عدم شرعية موقفهم، وذكّرهم بما حذرهم فيه رسول اللـه (ص) وذكّرهم بفضلـه وأحاديث رسول اللـه (ص) في حقه، وأتبعه أصحابه في تحذيرهم؛ ومنهم زهير وبرير والحر، وحينما لم تجد التحذيرات نفعاً، وأصرّوا على قتالـه او استسلامه تهيأ للدفاع عن نفسه بعد أن بداوه بالقتال وزحفوا على معسكره، وبعد بدء القتال لم ينقطع عن تحذيرهم، ولكنهم أبوا إلا قتالـه.
الخامس عشر: التزام النساء بتعاليم الإسلام في المصاب
إنّ القتل بتلك الصورة المأساوية من تقطيع بعضٍ إرباً إرباً، والتمثيل بجثث القتلى وسحق صدر الحسين بالخيول وقتل الأطفال، لم يقابلـه حزن يتجاوز حدوده الشرعية؛ فالتزمت النساء بالقيم الإسلامية، فلم يشققن جيباً ولم يخمشن وجهاً، ولم يرتفع صراخهن أمام الأعداء، بل قابلن المصاب برباطة جأش؛ وهذا نادر في غير النهضة الحسينية.