لن يستطيع قلمي ان يصف ما كان يعتمل قلبي من مشاعر اثر وصول دعوة لي للقاء مختصر ونخبوي لبحث مشاكل العراق الاقتصادية ومستقبله والتحديات التي تواجهه ، وكان ذلك في بداية شهر ايار من عام ٢٠٠٣ حيث كنت حينها قد بدأت التنقل بسيارتي ومنذ منتصف الشهر الرابع دون ان يثنيني رصاص او تسليب او حوادث او عسكر ، لقد كنت امشي دون اكتراث بخطر حتى ان احهم قال لي يوما: الا تلاحظين انك المرأة الوحيدة التي تجوب الشارع ؟؟ .. ولم يكن ذلك ليعني شيئا.... لقد كانت فرحة التغيير تعني لي الكثير ، وحلم تغيير الاقتصاد العراقي يعني الاكثر ويعني الطموح ويعني كل شيء جميل ، وان يسمع صوتي اخيرا كان حلما احسست انني انتظرت العمر كله لاعيشه ، وفعلا كان يوم الاثنين الذي اتذكره جيدا ودخلت تلك القاعة بعد مرور بنقاط تفتيش عدة فوجدت امرأة في الباب عرفت فيما بعد انها مساعدة بريمر ومن ثم استقبلتني متفاجئة ، وقالت : قالوا لي انهم سيبعثون امرأة لكنني لم اصدق ؟؟؟ ، تعجبت من ملاحظتها لانني " ولشدة سذاجتي " لم اعتقد ان كوني امرأة يؤثر في عقلي او في مكانتي العلمية او على معرفتي الاقتصادية . . . .
دخلت القاعة التي هي قاعة الدستور " كما يسمونها " في قصر المؤتمرات ، وجدت الحضور وكانوا جميعا من الرجال الا انا والسيدة المذكورة آنفا ، فجلست في الصف الثاني ، عندها اتاني سكرتير بريمر وقال لي : ان سعادة السفير يقول ان مكانك في الصف الاول !!! فاعتذرت لانني لم اكن اعرف اجندة الاجتماع او محاور الجلسة الا ان ذلك لم يكن عذرا مقبولا ، اذ ان الدعوة كانت لشخصي من بين مجموعة من العراقيين وقادة الاحزاب السياسية الذين حباني احدهم بدعمه ومساندته ، وعندما جلست في الصف الاول ، رحب بنا بريمر وقال : في حال تصويتنا على اي مقترح سيكون للسيدة سميسم صوتان بدل الصوت الواحد الذي سيكون لكل منا كونها السيدة الوحيدة التي تجلس في هذا الاجتماع المصيري .... وقتها ادركت عبقرية ذلك القائد السياسي الذي دعمني وساندني رغم انه عالم دين الا انه اتى على خطوة لم يجرؤ ولن يقدم عليها اي من الرجال الاخرين ......
خلال ست وعشرين اسبوعا ناقشنا ووضعنا خارطة الطريق لكل المفاصل في حياة العراق الاقتصادية وكان يضاف الى الاجتماعات خبراء عراقيين من المالية والضرائب والمصارف والوزارات كافة ، كانت مناسبة مفرحة لي وكانت بداية لرؤية سراب التقدم ، انذاك حلمت ان يتحرر الاقتصاد وان ننتمي لمنظمة التجارة العالمية ، وان يصبح العراق فاعلا في منظمة الاوبك ، وان نشارقب في السوق الاوربية المشتركة كعضو مراقب ، ان تدخل الاستثمارات الاقتصاد العراقي ومن ثم يتم تشغيل عجلة الاقتصاد فلا تجد عاطلا عن العمل وتزج كل موارد الاقتصاد العراقي في عمليات تنمية مستدامة ....
حلمت بفصل للسلطات "لانني اؤمن انني ساعيش في عراق الديمقراطية!!! " ، اتفقنا على هيئات اقتصادية مستقلة ( ههههههه ) ، كتبنا عن اهمية الاوراق المالية واعادة التقييم ، وتحدثنا كثيرا عن السياحة و و و ، تناقشنا حول السياسات الزراعية ونظم الملكية السائدة للاراضي الزراعية في العراق ، والتسليف الزراعي و المساعدات والدعم الحكومي ، تبادلنا الراي حول الضرائب والرسوم الحكومية ، وبين ، كان نصيب السياسة النقدية الحصة العظمى ، لاسيما وظاهرة التضخم الموروثة من نظام ارعن لاتتصف قرارته باي منطقية او عقلانية ...... وسياسات صرف ترتبط بالقمع والارهاب وهل يغيب عن الاذهان اعداد المضاربين والعاملين في العملة وقد زجوا بهم في السجون وقطعت ايدي مجموعات منهم ؟ ؟ ؟
اما النقود المزيفة فكانت كارثة الكوارث ... ارقام فلكية لاوراق لا قيمة لها و لا معنى ، وتزييف بلغ حد فقدان التقييم الفعلي لقيمة الاشياء ...... ، وحقوق وديون ومديونية فلكية للعراق ، عرض علينا مقترح قانون النفط والغاز ، و كذلك قانون الاستثمار ، وتناقشنا كثيرا وبحنا بمخاوفنا وكثيرة هي المخاوف ، كانت قضية المديونية الخارجية تحديا كبيرا امام المجتمعين، ومن المفيد ان نشير هنا وهو أرشفة للتاريخ ان اغلب الممثلين الحاضرين كانوا ممن قدم من خارج العراق ورغم تنوع اختصاصاتهم الغنية علميا وعمليا الا انهم كانوا بعيدين عن واقع اشكالات المسألة اصلا ، وهذا ما انعكس بوضوح على الموقف من البطاقة التموينية والذي ما فتىء للان يثير التناقض في الموقف الرسمي من وجود البطاقة التموينية اصلا ، فلهذه اللحظة نجد الموقف ضبابيا من هذه المفردة المخيفة " البطاقة التموينية "، لان الاصل يقوم على غياب فكري لمسألة ايديولوجية الدعم وسياسات الدعم الاقتصادي ، وفيما كانت البطاقة التموينية في العراق جزء من برنامج حكومي داعم وموجه للحد من الفقر والتفاوت الطبقي في حده الادنى المتمثل بالحصول على المواد الاساسية من المفردات الغذائية الى تصور " خاطىء" من انها بطاقة تعريفية ذات ابعاد امنية كونها تعطي دلالة عن سكن واتجاه صاحب البطاقة المسكين !!! وكثلما كان النظام السابق يتعامل معها على انها " مكرمة" يمن بها على الشعب العراقي فيقطعها عن المتخلفين عن الخدمة العسكرية او من يدانوا لاي سبب ترتأيه السلطة انذاك، اصبحت الان وبعد قبر النظام السابق واسقاطه الوسيلة التعريفية الاساس للمواطن العراقي وكأن عراقيتك لاتصل حالا بصلاح البطاقة وفحواها .....
اما المضحك المبكي فهم محتوى البطاقة : وهذا امر يرتجى ان يكون جادا وليس سخرية من شعب يحب من يتحكم بامره ان يعامله وفق نظرية العبد والسيد !!!
اصبحت المواد المجهزة للبطاقة تندرا ومزحة للمواطنين وهي مزحة لمن يتحمل دخله فرق السعر ويقتنيها من خارج التموين الحكومي الا انه مع ارتفاع معدلات التضخم النقدي، وزيادة معدلات البطالة التي قاربت ١٣% الى ١٦%، وبروز ظاهرة خطيرة تجعل الفئة المستفيدة من الشعب العراقي هي تلك التي ترتبط بطريقة او اخرى بالقطاع الحكومي
وهنا ترى هذه الطبقة تحصل على المكتسبات وفرص العمل والامتيازات " تصوروا ان موظفي جهة مهمة من صغار الموظفين حصلوا على شقق سكنية في مجمع ٢٨ نيسان سابقا وعلى قطع اراضي مهمة في اماكن استرتيجية في بغداد واصبحوا ملاكا وتجارا بين ليلة وضحاها في وقت يعاني موظفو وخبراء العراق وعقوله في الدوائر الاخرى من حرمان حتى من فرصة الحصول على سكن......"
في بداية ٢٠٠٣ وفي تلك الاجتماعات المذكورة لم تكن المنطقة الخضراء قد تشكلت على هذا النحو ، وكانت الاجتماعات الاقتصادية المذكورة تجري في قصر المؤتمرات ، لم تكن هذه المنطقة قد تحولت الى حصن يحصل على خمس كمية الكهرباء المتولدة في العراق مقابل اربعة اخماس ل ٣٠ مليون نسمة...... وقد تحولت الى مدينة كاملة تزينها المطاعم و الاسواق و لا يسكنها الا ذو حظ عظيم .... قد ترى اناسا يمتلكون بيوتا فارهة في بغداد ولكن لزوم " البرستيج" تقتضي ان يسكنوا في المنطقة الخضراء، رغم ان العكس موجود وبوضوح، اذ هنالك اكثر من وزير واعلى من وزير ممن سكن ويسكن خارج المنطقة الدولية كما يحلو للسلطات الدولية ان تسميها ...... هذا الهدر في المال العام والتسبب في هدره باستمرار وتواصل من يتحمل نتائجه؟؟؟
عندما كنت اذهب بسيارتي انذاك كان ممثلوا الاحزاب يأتون بسيارات عادية ولم اكن اجد سيدات يمررن بسيارات يقودها سائق وترمق من يقف جنبها في الاشارة المرورية شزرا واحتقارا....
لم يكن هنالك من توصل بالتدليس و ال ال الى احتساب الفصل السياسي فاصبح في ليلة وضحاها معاون مدير عام ولذا كان لزاما ان يضطهدك حتى وان كنت خبيرا وتحمل كفاءة علمية وعملية اصبح هؤلاء " الزبد " الطافي على السطح هم الدولة وهم مروجو التعسف والفساد وضاعت المنظومة المؤسسية.....
في هذا الخضم كنت اراقب الحدث الاقتصادي عن كثب وبنظرة الاقتصاد الكلي Macro Economic View فاصبحت ارى تراجع الانجاز عن الهدف وتخلفه ، فاين الاستثمار وقانون الاستثمار ؟؟؟ لقد تحول الى هيئة حكومية ومراجعات روتينية تعطيك انطباعا بعمق البيروقراطية وتجذرها...... واين قانون النفط؟؟؟ واين الهيئات المستقلة ؟؟ واين البنك المركزي؟؟؟
في ٢٠٠٨ كتبت مقالا في جريدة المدى الغراء عن تردي مفاصل العمل في بعض مؤسسات البنك المركزي ، فقامت الدنيا ولم تقعد بل وانبرى احد قيادات البنك الى شتمي واهانتي وتهديدي في مقال في ذات الجريدة بل وعمدوا الى نشره في جريدة المواطن ونشرة رابطة المصارف الخاصة وجهات اخرى ، الا ان حرية الرد كانت مكفولة انذاك فرددت بمقال اخر ، بطريقة خففت الوطأة ، لانني كنت اعلم ان يوما ما سيأتي وتظهر كل هذه المساوىء على السطح وسيكون ماكتبت صحيحا وواقعا وعندها يتيقن من قرأ ذلك انها الحقيقة التي ذكرت وانني كتبت ذلك انطلاقا من وجهة نظر موضوعية ومهنية علمية بحتة .....
الا انني الى الان مؤمنة ومصرة على استقلالية البنك المركزي و ضرورة فصل السلطات والصلاحيات وهذا هو من اهم مفاصل البناء الذي رسمت خريطته لانشاء عراق جديد.....
لم يكن يتصور الكثيرون امدى اهمية استقلالية السلطات النقدية وكيف يمكن ان يكون ذلك اساسا لتحسين وضع الدينار العراقي ورفع قيمته الاسمية والحقيقية ، ولان هذه الملفات كانت ضمن الخطوط الحمراء التي لاينبغي المساس بها او حتى التنويه عنها !!!
ولكن الحقيقة التي تجدر الاشارة اليها ان قيمة العملة الوطنية هي من المسائل السيادية التي تتعلق بصورة ومحددان الامن الوطني لذلك البلد ، ومن هنا تأتي حساسية التعامل مع مفردة الدينار وسعره ومتطلباته وعلاقته بالصرف الاجنبي من خلال تقييمه بما يعادله من العملة الاجنبية .
فاذا كانت هذه العوامل ذاتية وفنية بحتة لكي تتدخل في تحديد سعر العملة فان هناك عوامل اخرى تكون خارجية وفي ظل متغيرات واتجاهات اليوق والتي تتحدد وفق مؤثرات قوى العرض والطلب على العملة الوطنية و/ او العملة الاجنبية ، حيث يزداد الطلب على العملة الاجنبية في حالات عديدة اذ يمكن تشخيص اهمها مايحصل في حالات تفاقم العجوز في الموازين الخارجية :" الميزان التجاري، و الحساب الجاري ، وميزان المدفوعات " ، وعند وجود أزمات اقتصادية تكون شحة النقد الاجنبي احد اهم نتائجها كما في حالة الحصار الاقتصادي المفروض على العراق والذيادى الى وضع يد الامم المتحدة على الارصدة العراقية في الخارج وكذا منع تصدير النفط مما ادى الى شحة كمية النقد الاجنبي الموجود في الداخل وهو امر انعكس سلبا على تمويل الموازنة العامة مما حدا السلطات الى سد هذا لنقص بطبع المزيد من العملة الورقية التي وصل الحد بها انها منخفضة الى درجة لاتسد تكلفة طبعها !!!!!
دون ان يغيب عن الاذهان ان النظام الشمولي الذي كان يحكم العراق كان مقيدا بصورة قاتلة لحرية الصرف الاجنبي بمعنى ان تصريف العملة ما كان يتم الا عن طريق الدولة حصرا اما ماكان يتم خارج الاطار الرسمي فبات يحظى بمراقبة الدولة وتقصيها وشدة القمع التي وصلت حد بتر اليد!!
في ٢٠٠٣ وفي ظل التغيير المرسوم للاقتصاد العراقي ، تقرر التحول من الاقتصاد المركزي الى انموذج اقتصاد السوق ومن البديهي ان يقترن ذلك بتبدل في السياسة النقدية عموما وعلى سياسات تحديد سعر الصرف على وجه التحديد، منهنا كان اقرار مزاد العملة واتاحة المجال لتبادل العملة الاجنبية والترخيص لفتح حسابات من توفير وحساب جاري وودائع بالعملات الاخرى اضافة الى الدينار العراقي
ساهم ذلك في خفض سعر الدولار ورفع سعر الدينار العراقي ، الا ان غياب الرقابة العلمية والمنطقية وتسرب داء الفساد الى مفاصل الدولة المختلفة جعل هذه الحرية في ظل تعدد وتنوع الادارات والارادات حول تتحول الى صيغة من صيغ الاحتكار التي تقترن ببؤر هنا وهناك جعلها تمتزج بصورة اداء السياسة النقدية بصورة اعم والذي ولد انطباعا بات يمتزج بقضايا ذات طابع سياسي وطائفي و اقتصادي .......
في كل هذا البحر المتلاطم من الاسعار المتضاربة هنالك حيتان اقتاتت على احتكار هذا المزاد وتسخير هذه الحرية النقدية فهل تصور احدكم ان نضع اليد على هؤلاء المحتكرين والسارقين لقوت العراقيين وحقوق الاجيال القادمة؟؟؟؟
انه سؤال اتمنى ان يجد صداه في تتبع الجاني وليس في محاربة كاتبة السطور
ولنا حديث قادم في امالنا التي ذهبت ادراج الرياح.... اتمنى ان القاكم بالف خير