وهذا ما توقعت أن يكون هدف الذين حضروا حفل إحياء ذكرى يوم شهيد المحراب السيد محمد باقر الحكيم. وقطعا كان هذا هو هدف اغلب الذين حضروا. وقد تحولت توقعاتي الى تفاؤل، لم اكن أعهده بنفسي، حول حل الأزمة السياسية التي تعصف بالبلد حاليا، عندما عرفت بان الرئاسات الثلاث ستحضر مراسيم إحياء الذكرى. وفعلا قد حضرت جميعها. وباستثناء السيد رئيس الجمهورية، بحكم ما سمعناه منه وما شاهدناه على التلفاز، بدا رئيسا السلطتين التشريعية والتنفيذية وكأنهما من بلدين متحاربين تفصل بينهما بحور من الدم. لم يسلّما على بعض ولم يحيّي اي منهما الآخر بكلمتيهما اللتين القياهما في المناسبة. سؤال يفرض نفسه على اي عاقل: هل فعلا مثل هذين الرجلين يصلحان لبناء دولة وقيادتها وهما على هذه الدرجة من الخصام والعداء؟
اتذكر يوم كنت طالبا في المدرسة الابتدائية ان مدير مدرستنا زعل على معلمنا، الذي هو مرشد صفنا كما كان يسمى في تلك الايام، فدخل المدير يفتش الصف ليستفزه. قال لنا المعلم: قيام. احتراما منه للمدير. لكن المدير لم يسلم عليه ولم يصافحه بل كان عبوسا قمطريرا من لحظة دخوله الى لحظة خروجه. خرج المدير فهز المعلم يده واكتفى بان قال لنا متسائلا بصوت شبه مسموع: هذا شبيه؟
ولان والدي كان معلما أيضا، صادف بعد أيام ان دعا المعلمين للعشاء، كما كانت الناس معتادة في ايام المحبة والخير التي تسود طباع ناسنا في تلك الأيام. سمعت بأذني كيف عبر معلمنا عن ألمه، لا على نفسه، بل علينا نحن الطلبة. كان متألما لان المدير قد سلك سلوكا منافيا لأهداف التربية التي تنشدها المدرسة لأنها ليست مؤسسة تعليمية، فقط، بل وتربوية أيضا. كانت فكرته هي ان المدرسة يجب ان توفر مناخا للطلبة يتعلمون به معنى الصداقة والمحبة والتكاتف الاجتماعي والتسامح. ثم انهى كلامه بما معناه: ان كنا نحن قدوة لهؤلاء التلاميذ ونتصرف أمامهم بهذه الطريقة فكيف سيتصرفون فيما بينهم؟
وان كنت في ذلك الزمن صغيرا لا أعي المعاني التي أراد المعلم إيصالها لباقي المعلمين، لكني اليوم وبعد هذا العمر أقول: لقد تألم المعلم علينا ونحن لا يتجاوز عددنا خمسة وعشرين طالبا، فما الذي كان سيقوله لو حدث ما فعله المدير أمام ثلاثين مليونا يتحسرون على الكهرباء والماء ويحاصرهم الخوف ويهددهم الموت الذي لا يدرون أكواتم تأتي به أم مفخخات؟ أعانك الله يا عراق على بلواك، وعلى مصيرك الذي صار بيد قوم يصعب عليهم إخفاء أحقادهم وغضبهم من اجل كرسي السلطة حتى لو كانوا في حضرة استذكار شهيد وعلى مرأى من الكاميرات وعيون الناس.
لا حل عندي غير ان اعقد لساني واسكت عملا بنصيحة امي العمارتلية التي كانت تنصحني دائما: "يمه .. السكته اولى والحجي يكوي العين".