مع كل ازمة يبدأ التراشق الاعلامي والتسقيط الشخصي.. فهذا تاريخه مشبوه.. وذاك اتصالاته خارجية.. واخر دكتاتور او متورط بفساد او ارهاب.
وهذا دليل لامرين على الاقل.. الاول ان جوهر انظمتنا هي انظمة شخصية وليست مؤسساتية.. فالشوارع العامة مملوءة بصور القيادات..وخطابنا السياسي مملوء بالـ"انا" والتمجيد الشخصي. كان الامر مبرراً في فترات المعارضة.. فالاستبداد يتطلب قوى سياسية بتنظيمات حديدية وقيادات صلبة تتمتع بقدرات المقاومة والصمود مما يرسخ مفهوم القيادة التاريخية الصعبة الاختراق. والثاني ضعف المناهج في الدولة وفي الاحزاب.. فعندما تتصارع المناهج تكسب البلاد.. فتسقط اوراق وتنتصر اخرى.. دون هدر لكرامة انسان او حقوقه. فيزداد الوعي والتقدم ويربح الجميع.. اما صراع الاشخاص، فالتفرد والتمجيد وشعارات الروح والدم.. او رجم وتسقيط واتهامات واكاذيب وسحل وقتل.
وهذا سببه نظمنا الطاردة وليست الجامعة، وما ورثناه منذ الفترة العثمانية وقبلها.. فلم تعرف البلاد طرقاً لتولي المسؤولية وتداولها الا عبر الوسائل التآمرية والعنفية والكيدية. فتعم وسائل التسقيط والادانة على وسائل البحث والمنافسة السلمية والخطط والبرامج والسياسات.
وسببه ايضاً ضعف المهنية وفقدان "دساتير العمل".. فمن يراجع امهات الكتب كـ"صبح الاعشى" للقلقشندي، و"قوانين الدواوين" لابن مماتي سيجد توصيفاً او "دستوراً" متكاملاً لكل مهنة ووظيفة بشروطها ومتطلبات نجاحها وفشلها. اما نحن فلقد انقطعنا عن الممارسات الجيدة للماضي ولم نبن عليها.. ولم نجار المعايير العالمية الجديدة. فحلت الفوضى وفقدان المعيارية وانتشار اعتباطية الاحكام في النجاح والفشل.. ليصبح احتلال الموقع المعيار الاساس.. فنصفق لمن يحتله، لنرمي عليه المسؤولية عند تركه. فنراكم التخبط والفساد والشخصنة.
وستتضح الصورة اكثر باضافة الاخلاقيات الاجتماعية التي هي رادع مهم لمنع التسقيط اولاً، ولتكريم الشخصيات ثانياً، وحمايتهم ضد "اخطاء المهنة" ليكافؤا على تضحياتهم ومنجزاتهم وهي كثيرة ان نظرنا بانصاف. فالتداول والشفافية والنزاهة والنقد والاستجواب هي ليست تهماً او ادانات بل هي حماية لحقوق المواطنين ولاداء المسؤولين والحق العام.. وان اكتشاف ثغرات او اخطاء تعني تصويب سياسة وليس ادانة اشخاص. فالاخطاء جزء من المسؤولية.. يرتكبها من يعمل.. ويبقى بعيداً عنها من لا يعمل.
تراجع الزراعة.. تراجع البلاد
تتراجع الزراعة(والثروة الحيوانية)،مساحة وانتاجاً ونوعاً وتنوعاً، تراجعاً مخيفاً.. فبلاد الرافدين، ارض السواد، وسلة غلال الامبراطوريات والممالك، وخراجها الاكبر،تستورد اليوم غذاءها ومياهها. فتتراجع الاراضي الزراعيةبنسبة ٥%سنوياً.. ويزداد التصحر ومعدلات الغبار. وانتاج الحنطة والشعير اليوم بحدود ٣.٨ مليون طن، حسب التصريحات..
وبافتراض صحة الرقم،فان حصة الفرد ستكون (١٢٠كغم/سنة) تقريباً.. مقابل(١٥٠)و(٢٦٥كغم/سنوياً) في سبعينيات وخمسينيات القرن العشرين على التوالي.... وتراجعت اراضي المنتوجين(٧٥% من الارض الزراعية) من(١٠.٤/مليون دونم) في ١٩٥٥-١٩٥٦ الى (٨.٢م/د) في ١٩٧٩-١٩٨١.. وقد لا تتعدى اليوم (٦م/د) بغياب الاحصاءات الدقيقة. وانخفضت مساهمة القطاع في الدخل القومي من ٣٢.٢% (١٩٥٣)، الى ٢٠.٦%(١٩٦١)... ولا تتعدى ٢% اليوم، وذلك للتراجع المطلق والنسبي للقطاع، وليس لارتفاع واردات النفط فقط.. وتراجعت الخصوبة وانتاجية الدونم والمياه ونوعيتها..وازدادت الهجرة والافات وتكاليف الانتاج.. وغزت الاسواق السلع الاجنبية. وفشلت الخطط ومليارات الدولارات لمعالجة تلك المظاهر.. مما يدفع للبحث عن اس المشكل، الا وهو غياب الدوافع ونظام الحقوق، اي "نظام العلاقات الزراعية" باركانه الثلاثة. ]
•غياب التعريف الواضح للمستفيد والمستثمر والمالك والعامل، اي "اصحاب الحق".. الذين يحميهم القانون والاعراف..ويؤسسون لعلاقات عادلةثابتة بين الاستثمار والعمل.. وان غموض وتداخل الحقوق والعلاقات يتطلب تشريعات واضحة لانهاء فوضى القوانين والممارسات..
•توفير"التمويل بضمان الانتاج"، الذي يوفره ارتباط الزراعة بالتجارة.. فتاجر الحبوب كان "صيرفي" المزارع ومموله.. وعندما ضعف التاجر لاحتكار الدولة وانقطعت العلاقة -وبفشل البدائل كالمصرف الزراعي والسلف الحكومية- شح المال الذي لا تنطلق العملية بدونه.. مما يتطلب تأسيس صناديق مستقلة تربط الانتاج بالتسويق.. بمساهمة الدولة.. تضمن الاموال لفترات ممتدة..لتبعد الزراعة بفصولها التي لا تقبل التأجيل عن الروتين والتأخير،ولمواجهة الطوارىء والسنوات العجاف.
•ضمان"الاسواق"، باسعارتحفز "اصحاب الحق"لبدل الجهد والمال لضمان الانتاج وزيادته. وتجربة تسعير بعض الحبوبدليل ايجابي لحماية وتطوير هذه الممارسة لتعطي ثماراً افضل واعلى.
فالقضية استراتيجية وليست اقتصادية فقط. وتراجع الزراعة سيعني هجرة الانسان.. وموت الارض والحيوان ونقص المياه وتلوثها بكل الابعاد العميقة والمترامية التي اعتمدت عليها حضارات وادي الرافدين. فعندما نوفر اركان "النظام الزراعي"، عندها ستسثمر كل الاموال والجهود الصغيرة والكبيرة.. ولن ننقذ الزراعة وما يرتبط بها فقط، بل سننقد العراق ايضاً.
استمرار ازمة الكهرباء.. تلخيص للازمات المتصاعدة
يبين الجدول ادناه المبالغ التي خصصت في الموازنة العامة لوزارة الكهرباء خلال الفترة الماضية:
السنة النفقات التشغيلية/ مليار دينار النفقات الاستثمارية/ مليار دينار المجموع/ مليار دينار
٢٠٠٦ ١٠٠٦ ١٧٤١ ٢٧٤٧
٢٠٠٧ ١١٩٨ ١٧٤٥ ٢٩٤٣
٢٠٠٨ ٣٩٥٠ ٤٧٠٩ ٨٦٥٩
٢٠٠٩ ٢٧٢٧ ١٣٧٨ ٤١٠٥
٢٠١٠ ٢٨٠٣ ٧٠٠١ ٩٨٠٣
٢٠١١ ١٢١١ ٣٧٤١ ٤٩٥٢
المجموع ١٢٨٩٥ ٢٠٣١٥ ٣٣٢٠٩
كان بمقدور ٢٠.٣١٥ ترليون دينار، اي مجموع النفقات الاستثمارية، ان تضيف لانتاج ٢٠٠٥ البالغ ٣٥٦١ ميغاواط، ما يتراوح بين ١٥-٢٠ الف ميغاواط، خصوصاً اذا ما اضفنا عدة مليارات صرفها الجانب الامريكي.. اما ارقام الانتاج الحقيقية، فاذا طرحنا انتاج كردستان والاستيراد، فان ما ازداد فعلاً هو ١٣٣٧ ميغاواط خلال ٧ سنوات، كما يظهر ادناه (وزارة الكهرباء)
السنة معدل الانتاج (م.و) الاستيراد(م.و) انتاج كردستان(م.و) المجموع (ميغاواط)
٢٠٠٥ ٣٥٦١ ٢٦٩ ٣٨٣٠
٢٠٠٦ ٣٦٣٨ ٣٠٨ ٣٩٤٦
٢٠٠٧ ٣٧٧٧ ٢٦١ ٤٠٣٨
٢٠٠٨ ٤١٤٣ ٣٣٣ ٤٤٧٦
٢٠٠٩ ٤٩٦٢ ٦٢٥ ٥٧٢ ٦١٥٩
٢٠١٠ ٤٧٤٩+٨١بارجات ٦٧٥ ٨٨٩ ٦٣٩٤
٢٠١١ ٤٧٥٥+١٤٣ بارجات ٦٦٩ ١٤١١ ٦٩٧٨
اما مستوى الطلب فيبينه الجدول ادناه (بتقديرات الوزارة)
السنة الطلب/ميغاواط
٢٠٠٦ ١٠٠٠٠
٢٠١١ ١٥٠٠٠
٢٠١٢ ١٧٠٠٠
٢٠١٣ ٢٠٠٠٠
٢٠١٦ ٢٥٠٠٠
من مقارنة جدولي الانتاج والطلب هناك فجوة تقدر بـ ٨٠٠٠ ميغاواط في ٢٠١١.. و ١٠٠٠٠ ميغاواط في ٢٠١٢.. وسترتفع بشكل متسارع في السنوات القادمة. فعندما تعد التصريحات بارتفاع الانتاج قريباً او في صيف ٢٠١٣، ولا تذكر الحقائق عن زيادة الطلب.. نتيجة ارتفاع السكان وزيادة النشاطات ومستويات العيش، حسب التوقعات، فسيفقد المسؤول مصداقيته.. ولن يطمئن المواطنون الذين فقدوا ثقتهم بكل هذه الارقام والوعود بسبب استمرار ساعات الحرمان الطويلة.. والتي زادت من شدتها ارتفاع قيمة القوائم لكهرباءلا يصلهم الا قليلاً وبانقطاع، وبكلف عالية جداً.
فاذا اضفنا ما يصرفه القطاع الخاص والاهالي واصحاب المولدات والتي تقدر بضعف ما صرفته الدولة في نفقاتها الاستثمارية،سيظهر بوضوح ان الازمة ليست مالية او فنية.. بل ادارية واستراتيجية. ومع احترامنا لكثير من الجهود، لكن الدعاية والعناد وردود الفعل المبعثرة تتقدم كسلوك على الخطط المدروسة والحلول الواضحة.. ونجاح كردستان لتوفير (٢٤) ساعة كهرباء او ما يقاربها، باموال اقل ومساهمات اشترك فيها القطاع الخاص والعام، هو دليل على ذلك.
بغداد (١).. بداية طريق.. ونهاية تاريخ؟
ستخبرنا الايام بل الساعات القادمة ان كان اجتماع بغداد (١) سيعزز تفاؤل اجتماعات اسطنبول ولقاءات جنيف وطهران.. فان تحقق ذلك فقد نشهد بغداد (٢) وبغداد "دار السلام" ونجاح مفاوضات القرن الحادي والعشرين الاولى بامتياز.
فالملف النووي الايراني، وعلاقات الجمهورية الاسلامية باطراف دولية واقليمية نافذة ملف عاصف وتتعلق به قضايا اخرى. فهو يرتبط بايران ودورها في المنظومتين الاقليمية والدولية..
وباوضاع فلسطين وحزب الله والعراق وسوريا والقضية الكردية والبحرين والخليج والانتفاضات العربية.. كما يرتبط بافغانستان وبعدد من الجمهوريات السوفياتية السابقة.. اضافة لارتباطه بمحاور عالمية كبيرة. وان تغير المناخ العام بين الطرفين ودخول دائرة الحلقد يفكك بسرعة عوائق الجمود والازمات.. ويحدث تطورات تبدأ بطيئة ومترددة، لكن خطاها قد تتسارع رياضياً وليس حسابياً لحاجة الطرفين لها، تماماً كما عندما حلت العقدة الاساس بزيارة نيكسون في ١٩٧٣ للصين، فتغيرت المسارات، ليس بمعنى انتهاء الصراع والتنازع لكن بانتقاله لطرق وادوات اخرى.
ستخاف دول كثيرة من صعود ايران.. واسرائيل في مقدمتها.. لكن التصادم مع ايران سيثير مخاوف اكبر اقليمياً ودولياً.. خصوصاً في ظروف الازمة الاقتصادية والمالية الجارية. فالمفهوم التقليدي ان "الحرب استمرار للسياسة" يتراجع لمصلحة "الاقتصاد والتفوق العلمي". فلقد تغيرت جذرياً ظروف الحرب الباردة والحروب الاقليمية والمحلية بالنيابة. فالنزاعات تتجه نحو التطويق.. وتتراجع محفزات التشجيع والتوسع والانتشار. فكلف الحروب عظيمة.. ودمارها يتجاوز ساحات الوغى والجنود الفقراء.. وهي ان اندلعتستطال مقومات العيش والمدن والاجواء والبحار والشعوب.. لذلك تضعف مقومات الحروب الكبيرة.. وان بقاء او تفجر بؤر هنا وهناك لا تختلف عن بقاء اثار من النظام العبودي، حتى بعد تحريمه وزوال مقوماته.
نتمنى نجاح بغداد (١).. والذي قد يساعدنا ببناء تصورات وحوارات اقليمية خصوصاً بين ايران وتركيا والدول العربية ومنها العراق.. وبناء فضاءات واسعة.. تمتلك مفهوم المنظومة المتكاملة الفاعلة، بمقوماتهاالاجرائية والاقتصادية والعلمية والامنية والحقوقية والبشرية والسياسية.. وان تتكيف نظمنا السياسية -مع اختلاف مبانيها- مع هذه الحقيقة.. وليس كما يحصل الان حيث السياسة، وبالتالي الخلافات والمخاوف والصراعات هي القائدة.. ان حصل ذلكفهناك مبررات للتفاؤل بان بلداننا والمنطقة ستدخل اخيراً في مسالك الحضارة والتقدم والسلام.. وستصبح قوة ايران قوة لنا جميعاً.. كما تصبح قوة تركيا او البلدان العربية والاسلامية قوة للجميع.