لا شك ان المستقريء عن وضع التعليم العالي والبحث العلمي في العراق يستطيع ان يشخص وبشكل اجمالي اسباب الانحدار والتدهور لهذا القطاع من خلال المرور على تاريخ حقبات الحكم على العراق ، فمن النظرة الاولى نستطيع تلمس البناء الرصين لقطاعات الدولة منذ تأسيس الدولة العراقية وقيادة النظام الملكي لها ، وطوال فترة النظام الملكي الذي استمر ما يقارب الاربعة عقود وجدنا مخرجات ونتاجات لهذه الحقبة رصينة البناء ومغدقة العطاء وخصوصا في مجال التعليم والفكر والثقافة، بل وجدنا ان اغلب رموزنا الفكرية والعلمية والادبية في تاريخنا المعاصر تنتمي الى تلك الحقبة ....
هذا البناء الرصين للدولة استمر نوعا ما في العهدين القاسمي والعارفي الى ان حلت المأسآة على العراق باستيلاء عصابة البعث على مقاليد الدولة في العراق ، ونتج عن هذا الاستيلاء اقتراب نظم الدولة من عملية ومفهوم الادلجة وفق عقيدة وفلسفة السلطة القائمة ، وبعيد سقوط النظام البعثي اكتشفنا الحقيقة المؤلمة والمتمثلة بالتماهي التام بين الدولة والسلطة ، ولهذا سقطت الدولة بسقوط السلطة ولم نشهد ماتبقى من الدولة ونظمها الا اطلالا تذكرنا ببكاء اصحاب المعلقات والشعر الجاهلي....
بعد سقوط النظام البعثي وتحرك الواقع نحو نظام يمثل الارادة الشعبية من خلال نظامنا الحالي تضخمت التحديات وتعاظمت في طريق من يريد بناء الدولة بناءا صحيحا ووفق ارقى تجارب الانسانية والشعوب الحاضرة ، وكانت المشكلة مزدوجة بين عدم توفر ادوات فاعلة وكوادر مخلصة للسير في بناء مفاصل الدولة ، والطامة الكبرى ان نجد رب الدار يسعى جاهدا لاجترار تجربة التماهي بين السلطة والدولة في المفصل الذي كلف ببناءه ، وهذا المنهج – منهج الاجترار – نجده وبنسب متفاوتة عند الكثير من اولئك الذين هادنوا او ناصروا النظام البعثي السابق وكذلك نجده متوفرا لدى ابناء ثقافة التزلف والتقرب من المسؤول ، ولعل الابعد عن هذا المنهج هم اولئك الحاملين للرفض النفسي على الاقل بل والاكثر بعدا هم الذين ناضلوا جاهدوا وقارعوا النظام السابق وثقافته المتخلفه...
وحينما نطبق المعيار السابق على مفصل التعليم العالي نجده كحال مؤوسسات الدولة تعرض الى ابشع عملية تدمير تبناها النظام السابق قياسا الى العهود السابقة حتى تندر العراقيون باطلاق تسمية وزارة التعليم العاني والبحث الراوي – مع احترامنا لاهالي عانة وراوة – اواخر عهد النظام البعثي ، وبعيد سقوطه تسلم قيادة الوزارة خمسة وزراء نستطيع الحكم وبضرس قاطع على اهلية البكاء والمظفر لقيادة الوزارة وبالقدر المتطلب اما الاسود والعجيلي فللأسف وجدنا ثقافة الاجترار حاضرة وبقوة، فأما الاسود فتكفي قضية محاولة منحه مبنى جامعة بغداد – الذي كان محتلا من جهاز الامن الخاص- الى كلية التراث الاهلية دليلا على تشبعه باجواء ثقافة الحقبة البعثية ، واما العجيلي فكان الاقرب الى ارضاء العوام وتوظيف الدولة للسياسة والدواعي الانتخابية ، وهذا ما لمسناه جليا من خلال طروحاته الاعلامية واداءه الظاهر ، ونكرر الاسف اننا اكتشفنا ومن خلال ما تناهى الينا من العاملين في وزارة التعليم العالي ملفات تشير الى حس طائفي وحنين لحقبة البعث لسنا في مورد تفصيلها....
تسنم السيد الاديب وزارة التعليم العالي وهو ليس من ابناء المحيط الاكاديمي ، وكنت معارضا لتسلمه باعتبار رسوخ فكرة اهل مكة ادرى بشعابها في ذهني اضافة الى الضخ الاعلامي الذي لازال مسيطرا على قنواته وتوجيهه الفكر البعثي ، ولكن بعد فترة من الاداء للسيد الاديب في الوزارة اضافة الى مراجعة في معايير التقييم الذاتية اصبحت اميل الى ان القيادة في مفصل ما تتطلب مؤهلات قيادية بالدرجة الاساس اضافة الى التوفر على رصيد معلوماتي عن المفصل الذي تتطلب قيادته ، وهنا لايمكن لاحد ان يشكك في مؤهلات السيد الاديب القيادية بل نستطيع ان نجزم بانه من القلائل في طبقتنا السياسية ممن يتوفرون على عناصر قيادية نوعية يفتقر اليها الكثير من ابناء المشهد السياسي ، لكن نستطيع ان نجزم كذلك على افتقار السيد الاديب للرصيد المعلوماتي عن التعليم العالي وشؤونه ، ربما هذا الافتقار ممكن اغناءه من خلال الاعتماد على ادوات وكوادر تتسم بالكفاءة والنزاهة والاخلاص ، ويؤسفنا ان لانجد مؤشرا حقيقيا على سعي الاديب لتلافي هذا الافتقار وهنا نمسك القلم عن ايراد الامثلة والادلة على ذلك .
وبسبب توفر الاديب على الصفات القيادية المتميزية تحرك بخطوات واسعة وبشكل يكاد ان يكون ثوريا نحو بناء المفصل الذي يقوده ودون حذر من عدم اسعاف الواقع لطموحاته ، والخشية الحاضرة لدينا ان ينطبق المثل "اذا زاد الشيء عن حده انقلب الى ضده" على ثورة الاديب الطموحة ، وهذه الخشية متأتية من الاجواء العامة المتحكمة بالبلد اضافة الى عدم توفر كوادر وادوات يعول عليها لانجاح ثورة الاديب .
ولعلي اورد قابل الايام بعض القرارات الخطيرة التي تزمع وزارة التعليم العالي اتخاذها دون توفير المقدمات الصحيحة لهذه القرارات ودون حسابات دقيقة لتقبل الواقع لها ونجاحها.