متوّجٌ بإرثه العراقي الاصيل الضارب في أعماق تأريخ الحضارة العراقية قبل سبعة آلاف سنة بحقبها وأجيالها وأحداثها الجسام وطفراتهاالمتتالية وتقدمها المتواصل، منطلق من امتداده النجفي الجذور وثقافته العقائدية الدينية الصلبة، متدرع بالامجاد الوطنية لأسرة الحكيم الجهادية وماقدمته من شهداء بررة وتضحيات جسام في مقارعة الظلم والطغيان والوقوف الى جانب المستضعفين على الصعيدين المحلي والدولي، مثقلٌ بأعباء الهم العراقي الجسيم وجرحه الفاغر النازف وهو يمر في اصعب واحلك مرحلة من توجهه الجديد، مراهن على موقف شعبه وصموده وتضحياته ودعمه.
بهذه الهيئة المهيبة وهذه التركيبة العجيبة رسم السيد عبد العزيز الحكيم "قدس سره"، مسار الخط السياسي لعراق مابعد التسلط الدكتاتوري.
التزام عقائدي واضح، تمسك بثوابت وطنية، مطالب بانتزاع حقوق مشروعة،علاقات قائمة على احترام متبادل ومصالح مشتركة.
لم يكن التأكيد على استقلالية القرار السياسي العراقي في جميع الحوارات واللقاءات التي اجراها سماحته"قدس"، مع المسؤولين الأمريكان وغيرهم من مسؤولي الدول التي ساهمت في تحرير العراق أمراً طارئاً وشعارا ً مستهلكاً، بل هو امتداد لتصميم أرسى وثبت ركائزه شهيد المحراب "قدس"، في أول خطبة بعد التحرير لسنا نسخة مستنسخة من أيّ نظام ولن نكون ذيلاً لأحد. وان الدستور يكتبه العراقيون وان امام قوات التحالف مدة يتفق عليها الجانبان العراقي والامريكي للخروج من العراق بعد تنظيم اتفاقية او معاهدة تعاون مشترك. ولم تكن جولاته ولقاءاته الإقليمية والعربية والدولية مجاملات دبلوماسية، بل كانت ورش عمل فاعلة لإعادة العراق الى منظومته الدولية وموقعه اللائق فيها، وسعياً جاداً لترميم العلاقات العربية والإقليمية الّتي شوهتها السياسات الهوجاء للسلطة السابقة.
لقد كان لحظوره المتميز أثراً فاعلاً على كافة الصعد المحلية والعربية والدولية كيف لا وهو سليل أسرة الحكيم المجاهدة وإمتداد مرجعيتها العالمية المدوية الاصداء والمترامية الاطراف قبل ان يكون قائد أبرز تنظيم أسقط السلطةالصدامية الدكتاتورية – بعد استشهاد شقيقه شهيد المحراب- وقبل ان يصبح صمام امان عملية التغيير حيث تختلف إليه قيادات الحركات والائتلافات والاحزاب والكتل كلما شجر بينهم خلاف او اشتد فيهم نزاع فيأنسون برأيه ويرضون بمشورته ويتمسكون بحكمه.
ومع تزعمه لأكبر كتلة حققت أعلى نسبة في الانتخابات التشريعية الأولى (الائتلاف الوطني الموحد)، وحصلت على أغلبية مقاعد أول برلمان عراقي ديمقراطي وكلفت بتشكيل اول حكومة وطنية منتخبة إلاّ انه لم يستأثر بالسلطة ولم يتفرد بالقرار ولم يستحوذ على مناصب وزارية او مراكز حساسة داخل تشكيلة الحكومة الجديدة، مما أثار عتب وحفيظة الكثير من المحسوبين على المجلس الاعلى الاسلامي قيادات وقواعد جماهيرية والذين كانوا يأملون الحصول على مناصب او وظائف حكومية وتوقعوا ان الفوز الكبير لكتلة الائتلاف الوطني الموحد والذي تحقق بفضل الالتفاف الجماهيري حول خيمة الحكيم ومجلسه الاعلى سيحقق لهم ما يصبون إليه ففوجئوا بأن سماحة السيد"قدس"، يطبق المعنى الحرفي لمضمون الآية الشريفة (ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة).
ومع كل هذه التضحيات ظل المجلس الاعلى يحصد سلبيات المرحلة ويتحمل أوزار أخطاء الذين استثمروا الفرصة واستئثروا بالسلطة وحققوا المكاسب الشخصية والفئوية الضيقة وظلوا متمسكين بمناصبهم رغم رداءة ادائهم وفشلهم واخفاقهم في تحقيق أدنى نجاح منجز في مشروع سياسي او اقتصادي او امني او خدمي فضلاً عن استشراء الفساد المالي والاداري في وزاراتهم ومؤسساتهم ودوائرهم.
في خضم هذا البحر الطافح بالتداعيات والازمات والضغوطات الخارجية والداخلية مضاف إليها جشع الطامعين بالسلطة ومؤامرات الساعين لتقويض التجربة الديمقراطية الوليدة وانسحاب البعض وسط الطريق، وخذلان البعض الآخر، في خضم هذه الاوضاع المأزومة والخنادق المتداخلة والمواقف المتذبذبة والخيوط المتشابكة قاد عزيز العراق المرحلة المتلاطمة الامواج يغالب اوجاعه مخفياً جراحه، يئن بصمت ويلوذ بالصبر، لم يهن ولم يلن مواصلاً الليل بالنهار خدمة لوطنه وشعبه وإخلاصاً لقضيته ووفاءً لعهده وخوفاً على مكتسبات التجربة الديمقراطية.
حتى استفحل عليه الداء واشتد الوجع واخذ المرض منه كل مأخذ اعتذر مودعا ً شعبه قائلا ً: هذا كل مالدي ومااستطعت انجازه وتمنيت تقديم الكثير ولكن مشيئة الله تعالى قضت ولا راد لمشيئته سبحانه.
لم يكن خلال فترة علاجه بعيداً عن هموم وطنه وتطلعات شعبه، ظل هاجس التضحية والايثار ملازماً له، حتى وهو ينازع سكرات الموت (اعطوا للآخرين مايريدون حفاظا ً على وحدة الصف وسلامة التجربة).
لقد اعطى للعراق كل مالديه فما الذي قدمه الآخرون ؟، إكراماً لهذا القائد الرسالي في ذكرى رحيله خففوا ايها السياسيون من غلوائكم وتنازلوا عن بعض مطالبكم خدمة لوطنكم ووفاءً لجماهيركم وحفاظا ً على تجربة العراق الديمقراطية، اجعلوا من سيرته العطرة ومواقفه النبيلة عبرة ومثلا واسوة حسنة لتحتظنكم الجماهير كما احتظنته حيا ً ولتبكيكم وتشيعكم كما بكته دما ً وزفته ملايينا ً الى مثواه الاخير ولتلقوا ربكم ناصعي الوجه واليد والضمير كما لقي ربه صابرا ً محتسباً.