لم أكن يوما ما علمانياً ، وعاشرت الدعوة والإسلاميين طيلة أربعين عاما متفاعلاً معهم سالكا دهليزهم سابرا أغوارهم وهذا ما يمنحني القدرة على تميز غثهم وسمينهم ، مخلصهم ومنافقهم ، وأنا أفتخر أني بقيت على ذات الطريق التي سلكتها منذ عقود أربع لم أصانعهم أو أداهنهم ، نعم خسرت بسبب ذلك ، أشياءا كثيرة منها ما يحق لي معه أن أحزن وهو أني كباقي المخلصين في عراق القانون منعت إلى حد كبير من المشاركة في بناء العراق كما كنت أطمح أن أفعله وانتظرته أكثر من ربع قرن ، فقد وضع القوم اسمي في قائمتهم السوداء تلك القائمة التي درجت فيها أسماء كافة المخلصين وممن لايروق لهم أكل السحت على حساب الملايين من الفقراء والمعدمين في عراق ما بعد ٢٠٠٣ ، حتى أني وقبل أشهر عديدة منعت من العمل ضمن لجنة في مجلس محافظة النجف ، لأن رئيس المجلس وهو من حزب الدعوة الإسلامية قد تحفظ على مشاركتي في اللجنة وخط بقلمه الأحمر على طلب رئيس اللجنة بالرفض .. لم أستغرب فالقوم يخافون من أمثالي على دنياهم . لكني لا أكتمكم سرا شعرت وما زلت أشعر وأنا أرى العراق يذبح بمدية إسلامية شرعية ، بحزن كبير وظلامة أكبر ، ويزداد ذلك الشعور بالحزن والألم عندما أدرك أن القوم قد أدخلوا العراق في تركيبة سياسية معقدة لا يمكن الفكاك منها بيسر ، وهذه التركيبة تخدم الماسكين بالسلطة وتفتح لهم آفاق العبث بمقدراته بعيدا عن طائلة القانون ، وها نحن نرى الفساد المالي والإداري يدب في جسد العراق كأذرع الأخطبوط وينمو كالفطر في كل ركن من أركان البلد والمجتمع ، وليس في وسع أحد أن يحد من سطوته وجبروته ، والحزب الحاكم يعلم جيدا أنه وراء ذلك الفساد ، ومع ذلك يشعر في مأمن من العقاب ، والشعب يعلم جيدا ويأن من وطأته ولكنه عاجز عن فعل أي شيء ، سواء على مستوى الحد منه أو معاقبة من يمارسونه نهارا جهارا .
الحقيقة المرة هي أن السبب الرئيسي وراء استفحال هذه ( الطامة الكبرى ) هي ليست الحكومة ولا الكتل السياسية التي تشاركها وتشارك الحزب المتنفذ في اقتسام قوتنا وتكرس معاناتنا ، فهؤلاء جميعا غير ملومين لأن أغلبهم غير معصومين ونوازع الطمع والجشع قد سيطرت على دواخلهم وفقدوا الإحساس بمعاناتنا بعد فترة قصيرة من تذوق حلاوة دنيا المناصب وامتيازاتها ومشاعر الأبهة والعيش في مساكن بمستوى قصور صدام وفلل تشرف على سواحل دجلة أو في أحياء لندن وباريس الراقية ، وأنا لا ألوم هؤلاء فكل الناس تفعل ما فعلوا لو قدر لهم مثلما قدر للقوم إلا ما رحم ربي ، وما رحم ربي حددهم القرآن الكريم ( بالمخلَصين ) أي الذين اختصهم الله لنفسه ، ولا أعتقد أن ( أحدا ) من هذه الشلة الحاكمة تستحق مثل تلك المنزلة الإلهية الرفيعة. وأعتقد أن الغرب قد سبقنا في معرفة تكالب النفس البشرية على دنيا المناصب فقيدها بقوانين صارمة لاتستثني أي فرد يتجاوز على حقوق الأمة وإن كان رئيسا للدولة ، ورأينا نماذج كثيرة لرؤساء اطاح بهم القانون لأخطاء تافهة ، لو أردنا أن نقارن بينها وبين ما يفعله قادة العراق من أخطاء متعمدة وسرقات لحق لنا أن نلطم الخدود ونشق الجيوب . والمشكلة أن القانون الذي نقل الغرب إلى قمة التطور الحضاري المادي والاجتماعي ، يستعمله الحزب الحاكم في العراق للضحك على ذقون العراقيين ، فيطلق على كيانه بدولة القانون مع أننا ندرك جميعا وما يحصل على الأرض يثبت أن العراق يسير بلا قانون في ظل دولة القانون .
اسمح لي أيها القاريء الكريم أن أقول أن ما ذكرته هو مقدمة لحقيقة مرة هي سبب مأساتنا ، ومن أجل أن تكون الصورة واضحة أحببت أن اسوق لكم مثالاً تاريخيا عايشه الكثير منا وقرأ عنه من لم يعاصره ، سوف يلقي الضوء على طبيعة ما نعاني والسبب الحقيقي له … لقد كان جمال عبد الناصر قائدا قوميا استطاع أن يخلق له وجودا في قلوب المصريين بعد أن اقنعهم وبمساعدة الإعلام الحكومي العربي والغربي أنه القائد الأوحد والمنقذ لمصر وللأمة العربية من الإستعمار ، لكن القدر كان له بالمرصاد وخاصة أن أصل فكرة الإنقاذ كانت خدعة كبيرة مرت على الأمة ، فكانت هزيمة حزيران ١٩٦٧ ، التي قصمت ظهر الأمة وخدشت كرامتها ووضعتها في الحضيض ، لم يكن جمال عبد الناصر غبيا ، وكان يتوقع أن الأمة سوف تحاسبه وتقدمه للقضاء لأنه قادها إلى كارثة تاريخية ، وهزيمة كانت مقدمة لنكوص عربي قاتل ما زلنا نتلمس أثره ، فاستبق الحدث وقدم استقالته بعد أن اعترف لمصر وللعرب في خطاب له بتقصيره وفشله ، ولكن حصلت المفاجأة الكبرى التي لم يتوقعها أحد في العالم وهي أن الأمة ولأنها تعيش حالة من الجهل المطبق والتخلف الفضيع تنازلت عن عقلها واستسلمت لعاطفتها ولبقايا التأثير الإعلامي الذي صنع من عبد الناصر قائدا فذا لا بديل له في مصر ومن حولها ، فخرجت بمظاهرات مليونية تطالب عبد الناصر بالعدول عن استقالته ، والرجوع لقيادتها مع علمها اليقيني وبالتجربة العملية أنه لايصلح للقيادة لأنه فشل في تحقيق النصر وانهزم أمام العدو ، وأتذكر إحدى المظاهرات التي خرجت في الكويت وشاهدتها بأم عيني حيث كنت وقتها هناك ، أن المتظاهرين يبكون بكاءا مريرا توسلاُ بالقائد المهزوم أن يعود لقيادتهم .. هذه هي درجة الوعي السياسي في مصر والأمة العربية في حزيران ١٩٦٧ .
لكن الشعب المصري بعد ٤٥ سنة استكمل وعيه السياسي وبدأ يدرك مسؤليته وواجبه الوطني والشرعي في أهمية التغيير والخلاص من الحاكم المفسد وفجر ثورة الخامس والعشرين من شباط الأخيرة على مبارك مع أن الأخير كان له دور كبير في استقرار مصر اقتصاديا وسياسيا ، ولم يتسبب بهزيمة كتلك التي سببها عبد الناصر ، لكنه الوعي الجميل الذي دفع بالشعب المصري للثورة وعدم القبول بغير الحرية الكاملة واللحاق بالشعوب المتطورة الأخرى ، لقد هشم ميزان الجهل واستبدله بعايير الوعي ، ولعل أحد يسأل أين هي الحرية وأين هو التطور الذي حصل بعد الثورة في مصر ، وأقول له بثقة أن الشعب المصري يكفي أنه وضع قدمه على أول خطوة كتلك التي سبقتنا إليها الشعوب الغربية التي ضحت بالكثير من الوقت والجهد قبل أن تحقق كامل حلمها في بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية والتقنية المتطورة.
الذي يؤسف له أن وعي شعبنا العراقي في سنة ٢٠١٢ مازال بالمستوى الذي كان عليه وعي الشعوب العربية في ذلك الوقت ، وهذا يعني أننا بحاجة إلى عقود طويلة كي نشعر بخطورة الفساد الذي يقوده السيد المالكي وطاقمه ، فما زال شعبنا وخاصة في الوسط الجنوب يتعامل مع الحاكم بعاطفة طائفية راح يغذيها الحزب الحاكم بشكل خطير ، كما كان الشعب المصري يفعله سابقا مع عبد الناصر، وإلا كيف نفسر صمت هذا الشعب مع كل هذا الكم الخطير من الفساد وعمليات سرقة المال العام والتخلف الفضيع في توفير ابسط الخدمات كالكهرباء أو الماء ، كيف نفسر هذا الصمت والعراق بعد عشر سنوات لم يخطو مترا واحدا في مجال الصناعة أو التجارة أو الزراعة ، حتى أصبح بلد النهرين وأرض الرافدين يعاني من ( أزمة بصل ) ، أنا واثق أن الشعب العراقي لو امتلك الحد الأدنى من وعي الشعب المصري أو التونسي بل وحتى الشعب الليبي لما ترك حزب الدعوة ورئيسه يمارس دور الاستخفاف بالعقول بهذا الشكل المهين .. فالمثقفون والمخلصون ومن يحمل أدنى حد من الغيرة على حاضر ومستقبل العراق وطبقاته المنهوب حقها ، مدعوون جميعا للبحث عن مخرج لهذا البلد الأسير بفعل الجهل ومن ركب موجة الجهل ، وإن تطلب الأمر ربيعا خاصاً بالعراق ، ويبدو أن ذلك ما سيحصل فعلاً .