الخطاب بمفهومه الواسع أبعد من تلك الألفاظ والنصوص والإشارات،هو منظومة متداخلة من نسيج رؤى وأفكار ومرجعيات وفهومات وعادات وتصورات وأهداف ومقاصد ،وفي إحدى مداليله التحليلية يمثل هوية المخاطب .
يقال أن العرب أمة الضاد، وبلد الخطابة والبيان, أهل الكلام وصناعه ،ولا أدري هل أن هذه الخصائص لا حقيقة لها أم أنها تراجعت في أزماننا.
لا أريد الوقوع في الفخ الذي احذر منه في الخطاب "عندنا"،الذي يحوم حول القضايا دون ملامستها ،وأقترب مما عقدت له هذه المقالة مباشرة.
تعيش الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأيام تحضيرات الانتخابات الرئاسية القادمة ،ويتصاعد التنافس بين مرشح الحزب الجمهوري "رومني" ،والمرشح الديمقراطي الرئيس الحالي"اوباما" ،وفي العادة تشهد الساحة الأمريكية في مثل هذه الأيام خطابات مميزة للمرشحين.ومن وحي هذه الخطابات ومنهجية الخطاب الغربي والأمريكي السياسي، أقيم مقارنة تستبطن النقد والتقويم مع خطابنا السياسي.
خطابهم يتسم بالتلقائية والمباشرة ،فلا يلوذون وراء العبارات والألفاظ من اجل الالتفاف على القضايا والآراء ،ولا يتصنعون مشاعرهم وعباراتهم تجاه ما يردون التعبير عنه ،وخطابنا يلوذ خلف ألف ألف تأويل واستعارة وإيحاء ،وتشعر أن المتحدث مثل الآلة المسجلة لا يباشر بإحساسه المخاطبين .وخطابهم يهتم بالأمثلة الواقعية والشواهد الحاضرة والتفاصيل الدقيقة ،وخطابنا مولع بالعموميات والتنظير البعيد ،ونادرا ما يستحضر شاهدا للتقريب ،وإذا فعل فإنه يسارع إلى نفي قيمة الشاهد بوصفه مثالا ،ولا ينبغي التوقف عند المثال بحسب (المنهج الخطابي عندنا) ، هم يقربون الأفكار ويتحدثون عن الواقع ويستغرقون بالتفاصيل،لتكون الفكرة غير قابلة للبس والتأويل ،ونحن نبقى محلقين في العموميات هربا من الاقتراب إلى التفاصيل.خطابهم يكشف هويته بمستوياتها المختلفة وبتحولاتها وتبدلاتها دون مواربة أو حياء ،وخطابنا يخاف من أي صلة بالماضي ،ويقدم نفسه طهرا مطهرا خاليا من الدنس ،قد فطر على الحكمة والحصافة وليس في سجله الخطأ ولا النكسات .في مذكراته "القرارات الصعبة"،يتحدث الرئيس الأمريكي السابق (جورج دبليو بوش) ،عن قراره الأول وهو الإقلاع تعاطي الخمور التي يدمن على شربها ،ويتحدث بصدق عن ملابسات هذا الموضوع،ولحظات الضعف والقوة التي مرت به.قد يقول قائل بان طبيعة الثقافة الأمريكية والمجتمع الأمريكي يسمح بمثل هذا الحديث ، ولا تمثل تلك القضية في نظره مشكلة في تقييم الأشخاص ،ومع هذا تبقى هذه التلقائية والوضوح والشفافية لها أثرها في النفوس ،فما أحوجنا إلى نماذج مقاربة من الصراحة والشفافية وليست بالضرورة تتعلق بالإدمان على الخمر ،ولكنه تفصح عن الطابع البشري لنا ،حيث أننا نخطئ ونصيب.
يستعملون في خطابهم اقتباسات تلامس الوجدان الإنساني ،ويشعرون الآخر بأنه شريك لهم في الإنسانية ،لقد تحدث "رومني" عن تاريخه وعائلته ،ووالده ووالدته وعشقهما ،واستعارة عبارة أو نحت عبارة مؤثرة بصدق ،حين قال لقد علمانا والدانا "الحب دون مقابل" ، أن يحبك احد دون أن يبحث عن ثمن أو رجاء ثمن من المحبوب ،مهما كان ذلك الثمن ،حتى وإن كان حبا.وفي مثال مؤثر آخر قال:لقد استمر أبي وأمي يحبون بعضهما (٥٦) سنة ،وكان أبي في كل يوم يشتري لامي زهرة من بائع الزهور ويضعها على منضدتها ،ولما جاءت في احد الأيام ولم تجد الوردة ،عرفت أن أبي مات ،لقد كان مؤثرا فعلا.
لست من المروجين لحملة الجمهوريين ولا الديمقراطيين ،فاوباما استعمل الكثير من تلك الأمثلة المباشرة في خطاباته السابقة ولامس وجدان الأمريكيين والعالم.
بصدق إنني أتوق ولعل الملايين مثلي يتوقون إلى خطاب يفيض بإنسانية ملقيه ،ويلامس الواقع ،ويغترف من نهر الحياة الخاص بالمتحدث ،بعيدا عن التكلف والتعالي والضياع في دهاليز التأويل وأنفاق المجازات وخرافة البيان .
خطابهم عملي ، يحتوي في مضمونه جوهر القضية التي يريدون الحديث عنها ،يتمحور حولها ،وينغمس فيها ،ويخرج المستمع بخلاصة واضحة ،وأجوبة شافية ،وخطابنا هلامة عائمة ،أنصاف أفكار ،وأخماس معاني ،شحن للعبارات ،وحشو للجمل ،وتخمة في الألفاظ ،إلا أن المؤدى ركيكا هشا ، أو فارغا ،ولعل الكثير ممن يسمعون خطاباتنا يقول احد العبارتين :"ما كو شيء" بمعنى لا جديد ، أو "ماذا يريد أن يقول بالضبط" ،بمعنى ما هي النتيجة والخلاصة من كل هذا الحديث.
يؤمنون بالبراغماتية منهجا في حياتهم وعملهم ،نفسرها بـ(التبريرية) ،ويصرون على أنها (الواقعية والعملية) ، والتي تعني عندهم ،أن تكون هناك حلولا حقيقية واقعية وقابلة للتطبيق .ونؤمن بالمبدئية ،ولكننا نغتال المبادئ في وضح النهار حين تتقاطع مع مصالحنا الشخصية ،ونصبح براغماتيين حد النخاع بناء على تعريفنا للبراغماتية.
يؤمنون بان الأشياء الكبيرة يمكن أن يشاركهم بها مواطنيهم ،ولذلك يفصحون عما نعتبره في عرفنا ممنوعا ومحرما ،ويشعرون مستمعيهم باحترام عقولهم (طبعا مع وجود استثناءات سلبية)،بينما يتعالى خطابنا عن مخاطبه ،ويرى أكثر الأشياء أسرارا أو معاني شاهقة لا يمكن للمستمعين فهمها ،وليت هذه السرية تدوم ،ولكن وللأسف ،أهم الأسرار تقال في أماكن يتعالى المرء عن ذكرها.
الإطلاق والتعميم مخاطرة كبيرة في النقد والتقييم ،ولا نريد الوقوع في فخ "الدوغما" التي تحاول تصورينا من الدرجة الثانية ،لكن الحالة إذا تجاورت (المعظم) و(الغالب) ،فإنها تقترب من التعميم والإطلاق.
لا شك في أن لدينا قادة مميزون في خطابهم وأفكارهم، وأسلوبهم ،ولكن هؤلاء يبقون الفرد النادر ،ونحن نبحث عن العام الشائع.
أدعو من قلبي "زعماء خطابنا"، أن يصغوا بتدبر لـ"زعماء خطابهم"، ليستفيدوا الكثير من الدروس والخبرات.
د .نعمه العبادي/مدير المركز العراقي للبحوث والدراسات