الطفل في الأعوام المتأخرة من هذه المرحلة يحاول التشبه بالأشخاص الأكثر حيوية والأشد فاعلية في المجتمع، ويطلق علماء النفس مفهوم المحاكاة للتعبير عن التشبه الفجائي السريع الذي ينتهي بانتهاء المؤثر، فهو تشبه آني ويطلقون عبارة الاقتباس على التشبه البطيء ... الذي يستحكم في العقل والعاطفة ومن مصاديقه التقليد والاقتداء، والنماذج العالية من الشخصية هي المؤثرة في التشبه، فأهل الكرامة وأهل القدوة يكرمهم الشعب ويبجلهم وهم الذين «يقتدي بهم عامة الشعب»).
والطفل غالباً ما يتشبه بمن له سلطان روحي ونفسي على الناس ومنهم الملوك والحكام، والفائزون والناجحون في الحياة، وكلّ من له تأثير على الناس كالمعلم وعالم الدين.
ويرى بعض علماء النفس الحاجة الى تصور المثل الأعلى لدى كل إنسان( ) وهي حاجة ضرورية، والمثل الأعلى في رأي هؤلاء العلماء يختلف باختلاف الناس، ويتبدل بتبدل ظروفهم المادية والنفسية والاجتماعية، ويعتبرون المثل الأعلى متجسداً في القيم المعنوية والأهداف المتوخاة في الحياة.
والمثل الأعلى بهذا المفهوم ضروري جداً لكل إنسان وخصوصاً الطفل في الأعوام المتأخرة من هذه المرحلة، ولكنّ المثل الأعلى إن لم يتحول من المفهوم الى المصداق والى من تتجسد فيه قيم هذا المثل الأعلى يبقى محدوداً في حدود التصورات، فالطفل بحاجة الى التشبه والاقتداء بما هو ملموس في الواقع الموضوعي، وخير من يتجسد به المثل الأعلى هو النموذج الأعلى للشخصية الانسانية.
ويرى كل من الباحثين باندورا ومكدونالد: «ان للقدوة دوراً مؤثراً في مستوى المعيارية الاخلاقية، وكلّما اقترنت القدوة مع وجود دعم وإشادة كلّما كان التأثير أبلغ، وقد أجريا تجاربهما على ثلاث مراحل:
الأولى: مع وجود القدوة.
الثانية: بوجود القدوة الى جانب الدعم والتأييد.
الثالثة: اقتصرت على الدعم والتأييد لأجوبة الطفل من دون وجود قدوة.
وقد بيّنت التجارب أن المرحلة الثانية كانت هي الأكثر وقعاً على مستوى المعيارية الاخلاقية عند الاطفال»).
والاقتداء بالأسلاف «أكثر من الاقتداء بالطبقة العليا».
ومن هنا فالضرورة الحاكمة في الاقتداء بالسلف الصالح وهم الأنبياء والأئمة من أهل البيت، والصالحين من الصحابة والتابعين، والماضين من علماء الدين، فهم قمم في الفضائل والمكارم والمواقف النبيلة، ومما يساعد على التشبّه والاقتداء بهم تأثيرهم الروحي على مختلف طبقات الناس الذين يكنّون لهم التبجيل والتقديس.
وحياة الصالحين مليئة بجميع القيم والمكارم التي يريد الانسان التمسك بها، والاقتداء هو الذي يجعل الطفل إنساناً عظيماً تبعاً لمن يقتدي بهم، وإذا فقد الاقتداء جمدت جذوة الحياة وضعف الطموح وانحرف عن مساره للتعلق والاقتداء بالهامشيين من الأشخاص العاديين.
فالواجب على الوالدين توجيه أنظار الطفل وأفكاره وعواطفه ومواقفه نحو الشخصيات النموذجية ابتداءً من آدم وانتهاءً بالعظماء المعاصرين، ولكلّ نبي أو إمام من أئمة الهدى تاريخ حافل بجميع المكارم والقيم والمواقف السائدة في الحياة.
والقدوة الصالحة لها تأثير ومواقف مشرّفة في كل زاوية من زوايا الحياة، والاقتداء بها تنعكس آثاره على جميع جوانب شخصية الطفل العاطفية والعقلية والسلوكية، فتندفع الشخصية للوصول الى المقامات العالية التي وصلها الصالحون المقتدى بهم.
الاقتداء برسول الله (ص)
كان رسول الله (ص): «يبدأ من لقي بالسلام، وكان يأكل على الأرض، وكان إذا دعاه رجل فقال: يا رسول الله! قال: لبيك، وإذا قال يا أبا القاسم! قال: يا أبا القاسم، وإذا قال يا محمد! قال: يا محمد، وإذا أخذ الرجل بيده لم ينزعها منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزعها، وإذا نازعه رداءه لا يجاذبه حتى يخليه، وإذا سأله سائل حاجة لم يردّه إلاّ بحاجة أو بميسور من القول»( ).
وكان عنده القريب والبعيد والقوي والضعيف في الحق سواء، يحب المساكين ولا يحقّر فقير بفقره( ).
وكان يقسم لحظاته بين أصحابه فينظر الى ذا، وينظر الى ذا بالسوية( ).
وجاء إليه رجل لحاجته يذكرها فأخذته رعدة شديدة ومهابة، فقال له: «هوّن الله عليك فاني لست بملك ولا جبّار وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة»( ).
وكان إذا فقد الرجل من إخوانه ثلاثة أيام سأل عنه، فان كان غائباً دعا له، وان كان شاهداً زاره، وان كان مريضاً عاده( ).
وقال زيد بن ثابت: «كنّا إذا جلسنا إليه (ص) أخذنا في حديث في ذكر الآخرة أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الدنيا أخذ معنا، وإن أخذنا في ذكر الطعام والشراب أخذ معنا»( ).
وإذا كان في بيته يخصف نعله ويخيط ثوبه( ).
وكان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة أو يسميه، فيأخذه فيضعه في حجره تكرمة لأهله، فربما بال الصبي عليه، فيصيح بعض من رآه حين يبول، فيقول: «لا تزرموا بالصبي» فيدعه حتى يقضي بوله، ثم يفرغ له من دعائه أو تسميته، ويبلغ سرور أهله فيه، ولا يرون أنه يتأذى ببول صبيهم فإذا انصرفوا غسل ثوبه بعده( ).
وكان (ص) يقدم من السفر فيتلقاه الصبيان فيقف لهم، ثم يأمر بهم فيرفعون إليه، فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه، ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم( ).
وذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: «أهديتم لجارنا اليهودي، أهديتم لجارنا اليهودي، ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»( ).
وجاءه رجل يسأله أن يعطيه فقال: «ما عندي شيء ولكن ابتع عليّ».
وفي رواية: «ما عندي شيء أعطيك، ولكن استقرض حتى يأتينا شيء فنعطيك»( ).
وما كانت تغلق دونه الأبواب ولا يقوم دونه الحجاب، ولكنه بارزاً، من أراد أن يلقيه لقيه، وكان يجلس بالأرض، ويضع طعامه بالأرض، يلبس الغيظ، ويركب الحمار، ويردف عبده، ويعلف دابته بيده( ).
وكان إذا بلغه عن أحد ما يكرهه لم يقل: ما بال فلان يقول كذا وكذا، ولكن يقول: «ما بال أقوام يصنعون أو يقولون كذا» ينهي عنه ولا يسمي فاعله( ).
وكان يشارك المسلمين في أعمالهم.
قال البراء بن عازب: «ولقد رأيته يومئذ -في الخندق- يحمل التراب على ظهره، حتى حال الغبار بيني وبينه».
وقال أبو سعيد الخدري: «كأني أنظر الى رسول الله (ص) وهو يحفر الخندق مع المسلمين والتراب على صدره».
وقالت أم سلمة: «كنت مع رسول الله (ص) في الخندق فلم أفارقه مقامه كله، وكان يحرس بنفسه في الخندق»( ).
وحينما فتح مكة قال: «يا معشر قريش: ما ترون أني فاعل فيكم؟»، قالوا: «خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم»، قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»( ).
وفي أحد أصابت رسول الله (ص) بعض الجراحات، فقيل له: ألا تدعو عليهم، قال: «اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون»( ).
وروي عن الامام الصادق (ع) أنه قال: «كان رسول الله (ص) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله، لا تغلّوا ولا تمثلوا ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها ...»( ).
وكان يستوعب الرأي المخالف والاعتراض برحابة صدر، فحينما أمر بعدم قتل بني هاشم الذين أجبرتهم قريش على المشاركة في قتال المسلمين، قال أبو حذيفة: «أنقتل آباءنا وإخواننا وعشيرتنا، ونترك العبّاس -عمّ النبي- والله لئن لقيته لألحمنّه بالسيف»( ).
وكان لا يستثمر منصبه كرسول وكقائد دولة وتقديس المسلمين له لدفعهم عن التنازل عن بعض حقوقهم أو حريتهم في التصرّف، فحينما طلب وفد هوازن منه (ص) إرجاع سباياهم من النساء قال لهم (ص): «أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم».
فقال المهاجرون والأنصار: «وما كان لنا فهو لرسول الله».
أما بنو تميم وبنو فزارة وبنو سليم فأبوا، فقال لهم رسول الله (ص): «من أمسك منكم بحقّه فله بكل إنسان ستة فرائض من أول فيء نصيبه، فردّوا الى الناس نساءهم وأبناءهم»( ).
وحينما أراد إرجاع بريرة الى زوجها، قالت: يا رسول الله تأمرني به؟ فلم يستثمر (ص) منصبه وتقديس بريرة له ليأمرها بالرجوع مع كراهيتها لزوجها، وإنما قال: «إنما شافع»( ).