لا تقتصر نعمة تلك الشبكات على الجوانب السياسية والترفيهية وسرعة تداول الأخبار والمعلومات، بل تتعداه الى تسهيل التواصل المعرفي ومساعدة المهتمين في شؤون الدراسات والبحوث العلمية.
أول شيء تعلمته من أساتذتي الكبار، في بدء دخولي عالم التخصص الأكاديمي، ان البحوث العلمية الرصينة، خاصة في مجال الدراسات الإنسانية، لا يمكن ان تُكتب في المكاتب حيث الطاولة والكرسي مع أوراق وقلم ومحبرة. مكانها الحقيقي هو المكتبات ومعايشة الناس ميدانيا.
وهكذا فعل العالم الاجتماعي علي الوردي حين كتب عن الشخصية العراقية بعمق ورصانة علميتين لأنه استنبط تحليلاته من خلال معاشرة العراقيين في الأسواق والمقاهي والشوارع ومن التنقل معهم بسوائل النقل العامة. وكذلك يفعل صديقي وجاري الباحث التاريخي رشيد الخيون الذي ألف أفضل الكتب في تاريخ الديانات والمذاهب. كنت اذ اشتقت لرشيد، رغم انه جاري، لا اقصده في بيته بل لواحدة من المكتبات العامة بلندن خاصة مكتبة "سَوَسْ" SOAS الشهيرة. هناك أجده غائصا بين أكوام الكتب منهمكا في تأليف كتاب جديد فاعرفه عن بعد من خصلات شعره المتطايرة التي يصعب على الكتب إخفاؤها. والآن صار يكثر من الزيارات الميدانية للمراقد والجماعات الدينية والمذهبية ليملأ فراغات مهمة غابت عمن سبقوه في التأليف والبحث.
واليوم، وبفضل الانترنت بشكل عام، وشبكات التواصل الاجتماعي، بشكل خاص، صار الباحث، بشكل من الاشكال، يجول في المكتبات والمدن والشوارع ويمشي بين الناس وهو في بيته. فيالها من خدمة إنسانية تستحق الانحناء إجلالا وتبجيلا لمن اخترعها.
كنت قد أزمعت، قبل عشر سنوات، على تأليف سلسلة من البحوث حول الأدب الشعبي بدأتها في بحث عن شعر النساء العراقيات (الدارمي).
ولأني أعيش في المنفى، كنت أعاني كثيرا في الحصول على المصادر التي تعينني على تحقيق فرضيات البحث. فبالإضافة الى شحة الدراسات في هذا الميدان مع ضعف بنيتها الأكاديمية، لان اغلبها يخضع للاجتهادات والأمزجة الشخصية، كنت بعيدا أيضا عن الناس الذين توارثوا هذا اللون الشعري الغنائي الجميل والرشيق من أجدادهم السومريين. لكني اليوم وبفضل الانترنت صرت لا احتاج الى غير أن ضع رسالة في صفحتي على الفيسبوك طلبا لجواب عن سؤال او نسخة من بحث او كتاب الا واجد عشرات الاستجابات. وقد أجد بحثا في هذا الموقع او ذاك المنتدى الالكتروني فاكتب للباحث او صاحب الموقع لأحصل على معلومات كنت في زمن احتاج شهورا او سنين لأحصل عليها. صارت لدي قائمة طويلة بأسماء هؤلاء الكرماء الذين ساعدوني. اصبحت بقدر لهفتي لإنهاء الكتاب وإصداره، أتلهف أكثر لشكرهم بأسمائهم واحدا واحدا على أول صفحات كتابي.
الدنيا ما زالت بخير يا جماعة الخير.