يحدثنا حاضر العراق أن التكالب على الدنيا من قبل منتسبي الإحزاب السياسية ومنها الدينية بالخصوص بلغ حداً مقرفاً ، فاموال الشعب العراقي الذي تبلغ فيه نسبة من يعاني الفقر أكثر من ٣٠% أصبحت نهبا بأكثر من وسيلة شيطانية ، منها بيع العقود في الداخل والخارج بعمولات معروفة ومكشوفة ، ومنها الاستحواذ على القطع السكنية المطلة على نهر دجلة ومراكز المدن ، ومنها نقل ملكية العقارات المختلفة بأثمان زهيدة لأسماء منتسبي الحزب الحاكم ومن يعلن له الولاء ، ومنها بيع أراضي المحافظات لشركات تدفع اكثر تحت طائلة قانون الاستثمار ، ومنها .. ومنها .. والقائمة تطول .. كل تلك الممارسات التي برع فيها حكام العراق الجديد تدل بما لايقبل الشك أن القوم ما عادوا يفكرون بأن هناك جنة خلقها الله لمن يطيعه ونار لمن يعصية.. لا أريد أن اثبت للقاريء الكريم ضياع القوم في دهاليز هذه الدنيا الفانية مأخوذين بسكرة السلطة ، مستغلين جهل الناس أو بساطتهم وصمتهم عما يفعلون ، فالأمر أصبح ظاهرا للعيان يتحدث به الجميع ، والمسؤولون السراق هم أيضا يتحدثون به ليدفعون الشبهة عن انفسهم ، متصورين أن الأمة مغفلة لاتعي بما يحصل من حولها .
وكمواطن فرح بالعهد الجديد للعراق بعد أن شبعنا جميعا من ظلم البعثيين وتعسفهم واستهتارهم بكل المعايير الإنسانية عقود طويلة ، كنت أحلم أن الذي سوف يتولى قيادة العراق أناس لديهم بعض الدين ، والوجدان ، يشعرون بآلامنا ويعتبرون بما حل بنا ، بقيت أفتش عن النموذج الذي ينتشلني من خيبة الأمل التي لم تزل تعتمل في داخلي مع مضي أكثر من تسع سنوات على رحيل النظام البعثي المقيت ، لكن يبدو أن الدنيا التي كان حبها رأس خطايا صدام وعصابته ، أصبح حبها بعد نيسان ٢٠٠٣ رأس خطايا الحاكمين الجدد في العراق ، كنت أحلم أن يكون لدينا رئيس لوزراء ترابيا يمتلك ولو جزءا يسيرا من الشعور بالمسؤولية اتجاه معاناتنا وخاصة أنه وكما نعلم ويفترض منه يمتلك مشروعا دينيا هو أقرب للإصلاح منه للفساد .. لكن الذي يؤسف له أن مشاريع الفساد كانت وما تزال هي الغالبة في عهد حزب المباديء والقيم والدينية .
يحدثنا التاريخ أن سعيد بن عامر كان واليا على أحد الأمصار من قبل أحد الخلفاء ، وحصل أن زار وفد من ذلك ( المصر ) الخليفة ، وبعد أن انتهت الزيارة طلب الخليفة من الوفد أن يعطيه قائمة بأكثر الناس فقرا في ديارهم ، ولما قرأ الخليفة تلك القائمة قال متسائلاً : ومن هو سعيد بن عامر . قال الوفد أنه الوالي ، وأنه من أكثر الناس فقرا في ديارهم . استغرب الخليفة ، ثم أعطاهم ( صرة ) فيها ألف دينار ، طلب منهم تسليمها لسعيد بن عامر ليعالج فيها فقره .
سلم الوفد الصرة للوالي سعيد بن عامر بعد عودته ، فدخل الأخير على زوجته وهو يردد ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) فقالت له زوجته : ما حصل هل حدث مكروه للخليفة ؟ فقال : بل أعظم . فقالت : هل ظهرت آية ياسعيد ؟ فقال : بل هو أعظم . قالت : فأمرٌ من الساعة ؟ قال : بل هو أعظم ، لقد دخلت عليّ الدنيا لتفسد آخرتي . قالت زوجته : تخلّص منها . وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئا ً . قال لها : أو تعينينني على ذلك ؟ قالت : نعم . فوزع سعيد بن عامر الدنانير التي أرسلها له الخليفة جميعاً على فقراء مدينته .
وبعد فترة زار الخليفة المدينة التي يتولى عليها سعيد بن عامر ، واجتمع معه جمع غفير من الناس في المسجد الجامع ، فشكا الناس الوالي للخليفة ثلاثة أشياء فيه لايحبونها ، فقال الخليفة : ما تشكون من أميركم ؟ . قالوا إنَّهُ يَخرُجُ إلى الناسِ مُتَأخِّراً في النهارِ. ونَظَرَ الخليفة إلى سعيدٍ وسَأَلَهُ أن يُجيبَ. فقال سعيد : والله إني أكرَهُ أن أقول ذلك ، ليس لأهلي خادم ، فأنا أَعجِنُ معهم عَجيني، ثم أنتظِرُ حتى يَخمرَ، ثم أَخبِزَ لهم ، ثم أَتَوَضَّأَ وأَخرُجَ إلى الناسِ ، هذا ما يؤخرني مجبرا . ثم قال الخليفة للحاضرين : وما تشكون منه أيضاً ؟ . قالوا: إنَّه لا يَرُدُّ على أحدٍ في اللَّيلِ . قال سعيد : والله كنت أَكرَهُ أن أُعلِنَ ذلك أيضاً ، إني جَعَلتُ النهارَ لهم ، وجَعَلتُ اللَّيلَ لله عزَّ وجلَّ .
ثم قال الخليفة : وما تشكون منه أيضاً ؟ قالوا: إنَّ له يوماً في الشَّهرِ لا يُقابِلُ فيه منا أحداً . فقال الخليفة لسعيد بن عامر : وماذا تقولُ في ذلك يا سعيد؟ فقال سعيد: ليس لي خادمٌ يغسلُ ثِيابي ، وليس عندي ثِيابٌ غيرَ التي عليَّ ، ففي هذا اليومِ أَغسِلُها، وأَنتَظِرُ حتى تَجِفَّ، ثم أخرجُ إليهم آخرَ النهارِ .
عند ذلك قال الخليفة لسعيد بن عامر : الحمدُ للهِ الذي لم يُخَيِّب ظَنِّي بكَ .
انتهت حكاية الوالي المسؤول سعيد بن عامر ، بالله عليكم ، كم هو الفارق بين دينه ودين مسؤولينا ؟ وكم هي النسبة في مخافة الله بين الصنفين ؟ ألم تكن ( صفرا ) ، فواقعنا يحدثنا بوضوح عن تكالب على الدنيا وصراع على فتاتها ، أرجوكم إذا عرفتم شخصا واحدا فيه ١% من صفات سعيد بن عامر ، أخبروني حتى أعتذر منه ، فقد قلبتهم جميعا فلم أجد ، فلا أريد أن تكون حكايتي تفتقر للدقة فأكون ظالما لأحد مسؤولينا .