وعندما تعلن الجهات الرسمية المتمثلة بوزارات الدفاع والداخلية والصحة ، عدد ضحايا العمليات الارهابية خلال شهر ايلول الماضي، (٣٦٥) شهيدا اغلبهم من المدنيين، الى جانب اصابة (٦٨٣) اغلبهم من المدنيين ايضا، وفي ذات الوقت تؤكد تلك الجهات الرسمية بأن حصيلة ايلول الارهابية هي الاعلى خلال عامين، فهذا اعتراف واقرار صريح بأن الاوضاع السياسية تسير من سيء الى اسوأ، لانها لو لم تكن كذلك لما ارتفعت اعداد الضحايا، ولما راحت العصابات الاجرامية من تنظيم القاعدة والبعث الصدامي وغيرها تصول وتجول في عرض البلاد وطولها، لتقتحم السجون، وتفجر السيارات المفخخة والعبوات والاحزمة الناسفة وتصطاد من تريد ومتى تريد بكواتم الصوت.
ليس غريبا في الوقت الذي تسيل الدماء وتزهق الارواح ينشغل الساسة من اصحاب المصالح والحسابات الضيقة بخلافاتهم ومناكفاتهم العقيمة غير عابئين بكل مايجري من ماسي وويلات.
والطرف الذي بيده السلطة والقرار والماسك بكل مفاصل الملف الامني ومعه الملف السياسي وبقية الملفات، يعتبر ان تدهور الاوضاع الامنية تقف وراءه قوى وشخصيات سياسية معينة تنفذ اجندات ارهابية، والطرف المعارض –او الاطراف المعارضة، تعتبر مايحصل نتيجة طبيعية لسياسة الاستحواذ والاستئثار والتهميش والاقصاء التي ينتهجها طرف السلطة، وبين هذا وذاك تستمر عجلة القتل اليومي بالدوران لتحصد المزيد من الارواح، وتسفك المزيد من الدماء.
فالمساحة التي تتحرك بها الجماعات الارهابية اليوم اخذت تتسع وتتمدد بصورة واضحة وملموسة، بدءا من العاصمة بغداد صعودا الى كركوك وتكريت والموصل وديالى والانبار، ونزولا الى الديوانية وواسط والناصرية والبصرة وميسان، وهذا التوسع والتمدد يقترن مع اختيار نوعي للاهداف، وتخطيط يتسم بالدقة والخبرة والدراية، واذا كان تنظيم القاعدة قد طبق في اوقات سابقة وفي اماكن اخرى خارج العراق استراتيجية (اضرب واهرب)، فأن استراتيجيته الراهنة يمكن وصفها بـ (اضرب واضرب).
والسمة البارزة في تعاطي الجهات الرسمية-الحكومية العراقية مع العمليات الارهابية، هو تبادل الاتهامات فيما بينها والتنصل من المسؤولية، ومحاولة تعليق التقصير والاخطاء والسلبيات على شماعات الاخرين، وهي ظاهرة غريبة قلما نجد لها نظيرا في الدولة والمجتمعات ذات الطبيعة الديمقراطية.
منهجيات خاطئة
والانكى من ذلك الواقع السيء هو المعالجات الخاطئة التي لايمكن بأي حال من الاحوال ان توصل الى اية نتائج ايجابية، فما نلاحظه بعد كل عملية ارهابية هو مسارعة الحكومة الى اغلاق الشوارع، ونصب نقاط التفتيش الثابتة والمتحركة، ونشر عناصر الجيش والشرطة في الشوارع والازقة، بعبارة اخرى اشاعة اجواء عسكرية تتسم بالرعب والفزع، يضاف الى الرعب والفزع الناتج عن العمليات الارهابية الحاصلة قبل فترة وجيزة من الزمن.
وكل ذلك لايفضي الى اي شيء ايجابي، والدليل هو انه لاتمر الا ايام قلائل حتى يقع عمل ارهابي او عدة اعمال ارهابية في نفس المدن او مدن اخرى، وهكذا دواليك.
والمشكلة هي ان من بأيديهم زمام الامور يعتقدون-وهذه كارثة كبرى-ان استتباب الامن الداخلي يتحقق من خلال الطائرات والدبابات والمدافع والاف الجنود الذين ينتشرون في وسط المدن، بينما في كل دول العالم، وخصوصا المتقدمة منها والتي تعيش اوضاعا امنية مستقرة، لايجد المواطن ولايلمس اي مظاهر عسكرية في اي مكان، لان المعايير والسياقات المتبعة هي التركيز على العمل والجهد الاستخباراتي الذي يقوم على جمع المعلومات الدقيقة والتعامل معها ومعالجتها بهدوء.
ومايعزز القول بأن اصحاب القرار يتبعون منهجيات خاطئة هو الاتجاه الى انفاق مليارات الدولارات لشراء الاسلحة الثقيلة من مناشيء مختلفة وكأن العراق على وشك ان يخوض حربا شعواء ضد طرف خارجي.
ومايقوله الخبراء في مجال الامن، ان جزء صغير من هذه الاموال الطائلة لو خصصت لتطوير الجانب الاستخباراتي بطرق وسياقات صحيحة لجاءت بنتائج ايجابية اكثر فائدة بكثير من شراء الطائرات والمدافع والدبابات.
فضلا عن ذلك فأن جزء كبير من الامن الحقيقي اليوم يتحقق من خلال معالجة مشكلات وظواهر اجتماعية وحياتية خطيرة وكبيرة مثل البطالة والخدمات الاساسية توفير احتياجات ومتطلبات الحياة الضرورية لابناء الشعب وتعزيز الشعور الوطني لدى الناس، الى جانب التصدي للفساد الاداري والمالي المستشري في كل مؤسسات ومفاصل الدولة وخصوصا الامنية والعسكرية منها كوزارات الدفاع والداخلية وجهاز المخابرات.
الخلل والخطأ الكبير الماثل امامنا اليوم هو ان الحكومة تترك ماينبغي فعله وبأمكانيات وموارد غير باهضة، وتختار السير بطرق ومسالك تؤدي الى تبديد اموال وثروات البلاد من دون تخطيط ودراسة علمية معمقة،
ولايختلف الامر بالنسبة للخدمات عن الامن، فالحكومة الحالية والحكومات التي قبلها انفقت خلال تسعة اعوام اكثر من عشرين مليار دولار على قطاع الكهرباء ولم تتحسن قيد انملة، بينما انفق اقليم كردستان مليار ونصف كانت كافية لمعالجة ازمة الكهرباء فيه معالجة كاملة تقريبا.
اخطاء واخطاء
وقد يتعجب المرء ويصاب بالدهشة والاستغراب وهو يرى ويشهد ذلك التخبط الفاضح للحكومة، والذي لايدرك هل هو عن قصد ام عن غير قصد.
فبعد كل ذلك التهويل الذي رافق انسحاب القوات الاميركية من العراق نهاية العام الماضي وفق الاتفاقية الامنية المبرمة بين العراق والولايات المتحدة الاميركية في نهاية عام ٢٠٠٨، عادت الحكومة لتستنجد بالاميركان وبطريقة هادئة تجنبا للاعتراضات والانتقادات السياسية والشعبية، ففي الاونة الاخير دخلت قوات اميركية قتالية الى العراق، حيث استقر لواء من الجيش الاميركي في قاعدة عسكرية بمحافظة الانبار غربي البلاد، وكذلك استقرت تشكيلات اخرى في مطار المثنى، وربما في مواقع اخرى، وتتحدث مصادر مطلعة عن ان عدد القوات الاميركية التي دخلت العراق مؤخرا ناهزت العشرة الاف عنصر.
ويبدو ان هذا الامر لم يعد مخفيا، ولم يعد بأمكان الحكومة العراقية نكرانه، فالمشرف على مكتب وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون) في العراق الجنرال كيسلين كان قد صرح في وقت سابق قائلا "ان العراق يتفاوض حاليا مع الولايات المتحدة الاميركية لعودة فريق من القوات الخاصة في مهام تدريبية واستشارية، وانه على الرغم من ان العراقيين يريدون شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة، الا انهم يعترفون بضعفها، وهم مهتمون بالذهاب مع البلد الذي يمكنه تزويدهم بالقدرات العسكرية ويلبي حاجاتهم بأسرع وقت ممكن".
ويستدرك الجنرال الاميركي قائلا "بالفعل فأن وحدة من جنود العمليات الخاصة في الجيش الاميركي نشرت مؤخرا في العراق لتقديم المشورة في مجال مكافحة الارهاب والمساعدة في توفير المعلومات الاستخباراتية".
والمفارقة الغربية هي انه في الوقت الذي تتوجه الحكومة الى روسيا لتحصل منها على اسلحة ثقيلة بمليارات الدولارات في اطار ما يطلق عليه سياسة الابواب المفتوحة مع مختلف الاطراف، تستنجد من جديد بالقوات الاميركية.
والمفارقة الاغرب منها هي ان مجلس النواب العراقي الذي يعد السلطة التشريعية والرقابية الاعلى في البلاد لم يكن له اي رأي بصفقات الاسلحة التي ابرمت مع روسيا، ولم يكن على علم بدخول قوات اميركية الى البلاد مجددا، بينما المفروض في ظل النظام الديمقراطي وتعدد السلطات ووفق الدستور ان يكون البرلمان هو صاحبة الكلمة الفصل في قضايا حساسة وخطيرة من هذا القبيل.
نتائج سيئة
هذه المنهجيات الخاطئة عن قصد او من غير قصد، لايمكن ان تفضي الى نتائج ايجابية تنعكس على ارض الواقع بحيث يمكن للمواطن ان يلمسها اثارها في حياته اليومية، بل على العكس من ذلك تماما، نرى ان الهوة تتسع يوما بعد اخر بين الفرقاء السياسيين، وفرص وامكانيات حل الازمات تنحسر وتتلاشى بالكامل تقريبا، في ذات الوقت الذي تزداد معاناة المواطن العراقي بفعل استفحال الارهاب وتفشي الفساد، وتدني الخدمات، وغياب همومه وطموحاته وتطلعاته واحتياجاته من اجندات السياسيين المتصارعين على السلطة والنفوذ والمكاسب والامتيازات.
ان خلافات وصراعات السياسيين لم تترك مساحة او ميدانا الا وامتدت له، ففي البرلمان نجد ان كثيرا من مشاريع القوانين التي تعود بالنفع على المواطنين مثل قانون النفط والغاز والتقاعد وغيرها معطلة ومتلكئة، وفي القضاء نجد ان اعدادا كبيرة من الابرياء يقبعون في السجون، وان كثيرا من الارهابيين الخطيرين اما يفرون من السجون او يتمتعون بأوضاع مريحة جدا داخل زنازينهم، ناهيك عن الاطراف السياسية التي تدافع عنهم بقوة، اما الجوانب الخدمية من قبيل الصحة والتعليم والاسكان والرعاية الاجتماعية وغيرها فمأسيها وكوارثها لاتعد ولاتحصى.
ويخطأ من يتصور ان الحلول والمعالجات الترقيعية والوعود الكاذبة والوهمية، وسياسات لي الاذرع، ومنهجيات الاقصاء والتهميش، يمكن ان توصل البلد الى بر الامان، بل انها لايمكن ان توصله الا الى طرق موصدة وانفاق مظلمة وغياهب موحشة، ملامحها ومعالمها باتت واضحة في هذه المرحلة اكثر من مراحل سابقة.
ومشهد الاسبوع الفائت ومشاهد الاسابيع القلائل التي سبقته تكفي للتدليل على ذلك.