اما الثاني فتصويت الجمعية العمومية باغلبية تفوق الثلثين، وقليل من الممتنعين واقل من الرافضين.. بقبول فلسطين كبلد "لا عضو" (مراقب) في الامم المتحدة.. والذي يعتبر نقلة نوعية في اقرار المجتمع الدولي بالحق الفلسطيني.. ورفضه لسياسات اسرائيل المتغطرسة.
فالنجاحات ممكنة، رغم الخلافات بين السلطة بقيادة فتح.. والحكومة المعلقة بقيادة حماس.. بل قد تبدو الخلافات نتيجة طبيعية لمسارين تعذر جمعهما في اطار ومسار واحد.. فالتصدي للعدوان والعمل السياسي ضرورتان لاي نجاح.. لاسيما في القضية الفلسطينية واهمية العوامل الاقليمية والدولية فيها. فالنجاح ممكن، رغم الخلافات، ما دام القاسم المشترك هو فلسطين والحقوق العادلة.
فرجالات السلطة الفلسطينية ليسوا مجموعة من المتواطئين كما يردد البعض، بل هم ثمرة وبقية لخيرة ابناء فلسطين.. والذين اعلنوا الكفاح المسلح عندما تخلى الجميع عن فلسطين.. فصدق عليهم قول "ما ضاع حق وراءه مطالب". فلم تلد السلطة وسياستها من الاستسلام، بل من فوهة البندقية.. كما ان "الجهاد" و"حماس" ومنظمات المقاومة ليسوا مجموعة من المتطرفين والارهابيين كما يردد البعض، بل هم من نذر نفسه للدفاع عن شرف فلسطين وكرامتها.. وآمن ان السياسة امام الجبروت العسكري الاسرائيلي لن تستقيم بدون السلاح المقاوم.. فلم يمنعهم حصار غزة.. ولا ضيق مساحاتها.. ولا الضحايا والصعوبات من الرد المسلح.. فمهدوا للسياسة بان تعطي نتائجها.
بعد المعركتين والنجاحين سيعيد الجميع حساباتهم.. فكلفة صاروخ "القبة الحديدية" الحامية للمدن الاسرائيلة هي (١٥٠) الف دولار، مقابل (٥) الاف دولار كلفة الصاروخ الذي اطلقته غزة. فالصغير الكثير يعادل الكبير القليل، بل قد يهزمه. وستهدد اسرائيل بالرد وزيادة مستوطناتها، وهو ما قامت وتقوم به دائماً.. فلم ينقذها ذلك.. بل زاد في سوء اوضاعها.. واصطفاف المزيد من دول الطوق والمحيط ضدها. فالمؤكد ان اسرائيل من النيل الى الفرات قد انتهت.. وتوشك ان تنتهي اسرائيل الايام الخمسة.. وان اسرائيل العدوان والاستيطان باتت عبئاً كبيراً ليس على الفلسطينيين وشعوب المنطقة فقط، بل على العالم اجمع. فان اجتمعت المقاومة والسياسة فان حلاً حاسماً سيظهر لا محالة في الافق
تحرير الدولة والمجتمع من الاحزاب
منذ عام ١٩٦٣ والعراق يعاني من تفرد الحزب بالدولة والمجتمع.. فالفرد يتفرد بالحزب، ليتحكم بدوره بالدولة ومصادر القوة والمال.. وليفتح طريق التفرد بالمجتمع.. وليصبح الولاء للحزب وللفرد دليل الولاء للوطن والبلاد.
ولعل حنين البعض للنظامين الملكي والقاسمي، على ما فيهما من سلبيات ومظالم وتمايزات، يفسره بقاء الدولة والمجتمع اكثر انفتاحاً واستقبالاً للمواطنين منه لفئة حزبية محددة.
بعد اربعة عقود، بدا ان كل شيء سيسقط لمصلحة تجربة ديمقراطية دستورية تموضع الدولة والاحزاب والمجتمع والشعب كل في مساحاته.. لكن امور عديدة حصلت، ذاتية وموضوعية، منعت هذا التطور المتفائل.. فانحرفنا نحو المحاصصة.. لتتقاسم مجموعة احزاب السلطات ولتمد يدها لتتفرد بالمجتمع. مما اوجد فجوة تزداد اتساعاً بين الاحزاب والجماهير.. واثار صراعاً لا رحمة فيه ليس بين الاحزاب وفي داخل الكتل فقط، بل بين المكونات ايضاً.. فلعبة التفرد كلعبة القمار.. فامام كل رابح خاسرون ومفلسون.. والرابح اليوم خاسر غداً.. مما وضع البلاد على كف عفريت.. وجعل التسقيط والازمات والتعطيل، وبالتالي تأخر الخدمات واستمرار الارهاب والقتل اليومي وزيادة الاحقاد، ممارسات يتحمل المواطنون والوطن نتائجها المدمرة المتراكمة.
ليس معنى ذلك ان ليس للحزبي حقوق في الدولة والمجتمع، الا ما منعه الدستور كالقضاء وبعض الهيئات والمواقع.. بل معناه ان لا يكون للحزبي اولوية وامتياز.. فيتنافس كما يتنافس الاخرون. فمساحات الاحزاب الاساسية هي البرلمان والحكومة وما تتطلبه من نشاطات جماهيرية واجتماعية.. لكن الانحراف يبداً بتمدد الاحزاب لتسيطر على المواقع العليا والدنيا للدولة والجيش والشرطة والقضاء والهيئات المستقلة.. لتتمدد بعد ذلك على حقوق المواطنين والمجتمع في وارداتهم النفطية وعقاراتهم وممتلكاتهم وفرص عملهم وشركاتهم ومعاملاتهم ومناقصاتهم وفرصهم الدراسية، وتمتعهم بقضاء عادل وامن متساو.. فتزداد الفجوة بين السلطة والاحزاب من جهة، وجمهور المواطنين من جهة اخرى.. وتبرز مظاهر الفساد والمحاباة والمظالم.. يقابلها الرغبة بالمزيد من السيطرة.. لتزيح الاحزاب بعضها بعضاً.. وتتساقط الرؤوس لمصلحة رأس واحد.. والذي سيسقط بدوره.. فنقترب من النظم الاستبدادية ومآلاتها.. والانقسامات الاهلية ومخاطرها وحروبها.
الدولة والمجتمع يبنيان على عقد ودستور وليس بالمغامرات والمقامرات.. ففي العقد ترسم الحدود والمسؤوليات ليخرج الجميع بحقوقه رابحاً. ومقاصد الدولة والمجتمع الاحتواء والضم، وليس التعسف والابعاد والتسقيط. وواجب الاحزاب تصفية عقل المعارضة.. وتكييف فهمها وسلوكها مع عقل الدولة والمجتمع.
الاحزاب.. استمرارية الماضي.. ام تغيير نحو المستقبل
لا يمكن بناء بلد ديمقراطي ورأي عام حر دون احزاب وحركات قوية.. كما لا يمكن قيام علاقات سوية للتنافس والتعاون دون مشتركات اساسية.. متوائمة مع طبيعة المرحلة التي تعيشها البلاد.
واحدى المشاكل هي تقولب الاحزاب على المفاهيم والممارسات التي كانت ضرورية للمراحل السابقة.. فاحزابنا عريقة، وتتمتع بجمهور واسع، وقدرات كبيرة، وقدمت تضحيات هائلة وتتصدرها اسماء مرموقة. ولأنها معروفة وكبيرة فان تكيفها مع المرحلة الجديدة قد يتطلب وقتاً وجهداً غير قليلين.. وهذا شرط ليس لنجاحها فقط بل لنجاح مجمل التجربة الديمقراطية، باعتبارها القوى الرئيسية الحاملة للمشروع والمجسدة له. مما يضع تلك الاحزاب امام خيارين.. اما ان تعمل لاعادة تكييف نفسها جذرياً لتتخلق باخلاق وسلوكيات المرحلة الجديدة ونبذ السلوكيات المعارضة او الحاكمة السابقة.. او ان تمثل مصالح انانية خاصة.. مما يقود.. لتعثر التجربة بل فشلها.. او لبروز حركات واحزاب جديدة، ان امتلكت مؤهلات تلبية متطلبات المرحلة، فستتجاوز من يتخلف، مهما كانت عراقته.. وستوفر لنفسها ولجماهيرها وللرأي العام المعرفة والقدرة لانجاز المهام لبناء دولة عصرية راعية وخادمة لحقوق المواطنين.. وليس مجرد دولة ريعية، عسكرية، امنية، فاسدة، محتكرة، متغولة تتعيش من بؤس وتجهيل الشعب والكذب عليه.. او معارضة لا تعمل سوى على اعادة انتاج الماضي.
فمصادر قوة الاحزاب -باسمائها المختلفة- هي اليوم نقاط ضعفها.. فاحزابنا واجهت مهاماً صعبة اختلط فيها التحرر الوطني ومقارعة الاستعمار وحق تقرير المصير.. بالدفاع عن ثوابت الامة الدينية والوطنية.. بالحفاظ على البلاد بمكوناتها المختلفة موحدة ومتواصلة بامتها بابعادها المختلفة العقيدية والقومية.. بمقارعة الظلم والدكتاتورية والفقر والمطالب اليومية للجماهير.. باهمية الرقي بالبلاد لتكون في مصاف الامم والحضارات. وهذه مهام تراكمت واختلطت بمضامين وتوجهات مختلفة داخل البنى الفكرية والمفاهيمية للاحزاب باختلاف انتماءاتها وايديولوجياتها وقومياتها.. فاوجدت تباينات جدية فيما بينها.. وتضادات كبيرة في التعامل مع موضوعة بناء الدولة الدستورية الجديدة.
بعض تلك المهام قد انجز او تراجع، مما يتطلب التصفية والتخلص من الاثار العالقة.. واخرى ما زالت ضاغطة يجب اعادة تكييفها مع المهمة الاساسية الراهنة وهي بناء الدولة.. لتأتي منسجمة وليس متعارضة معها كما يحصل حالياً.. فتولد سلسلة من التعطيلات والتصادمات التي ستتعمق وتزداد.. لنستمر بارتكاب الاخطاء ومحاسبة غيرنا واعفاء انفسنا.. والانشغال بالشكليات.. وترك الاساسيات.
الاحزاب لتنظيم واطلاق الطاقات.. وليس للتمييز والاحتكار
تمثيل واستنهاض الشعب هي الفكرة الرئيسية لقيام الاحزاب.. ومفهوم التمثيلية قد يكون حقيقياً يعيد تدقيق نفسه من وقت لاخر.. وقد يكون افتراضياً.. فيقدر الحزب ان تفكيره ومصالحه هي ما تمثل الشعب، بينما الواقع هو انفصام العلاقة وابتعاد الاول عن الثاني.. لا يغير من ذلك ما قد تضفيه وسائل السيطرة الامنية والتنظيمية والحياتية والاقتصادية والفكرية والعقائدية وغيرها من تضليل واوهام وسيطرة..
والتجارب التاريخية كثيرة في هذا المجال، سواء اكان شكل التنظيم نخبوياً حديدياً، او ليبرالياً سائباً.. فالحزب الناجح -في مرحلة ما- هو من يستطيع في النهاية استثمار طاقات الشعب ويعكس مطامحه ويحققها بنسبة ما.. ليقوم الشعب بالمقابل بمنح هذا الحزب –بنسبة ما ايضاً- تأييده وشرعية تمثيله والتكلم باسمه.
قامت الاحزاب بتقديم ترشيحات عديدة لمواقع مختلفة في مواقع الدولة ومؤسساتها.. وانها الان في مرحلة تقديم مرشحيها لانتخابات مجالس المحافظات.. وهذه فرصة جديدة لتدقيق مدى ارتباط الاحزاب او خدمتها لمصالح الشعب.. او على العكس مدى استغلالها المبادىء والشعارات لتحقيق فوائد للحزب واعضائه على حساب المواطنين. فاذا ازحنا الكلمات الكبيرة ودققنا المواقف العملية، فسنجد خطأ واضحاً بين الاحزاب التي لا ترى مصالح الشعب الا عبر مصالحها، وهي الاغلبية الساحقة، ولو بنسب متفاوتة.. تقابلها نواتات، او ممارسات مترددة، لم ترق بعد لمستوى التجربة ترى فعلاً مصالحها عبر مصلحة الشعب والوطن، ليس الا.
في اطار المفهوم الاول سيرى كوادر الحزب اسبقيتهم، وغالباً ما يتصارعون –وقد يطعنون بالاخرين- من اجل ذلك.. وهذا قد يكون صحيحاً ان توفرت لهم الكفاءة والاهلية على غيرهم. لكنه سيعني -في غياب المواصفات المناسبة- حرمان الشعب والدولة من كفاءات افضل، بل سيشكل هيمنة واستعلاءاً في سلوك الحزب مع المواطنين، وتمييزاً يدعي الجميع محاربته.. وهو ما يتطلب الشجاعة مع النفس.. ليعطي التنظيم دعمه للاكثر كفاءة، والاكثر قبولاً للعمل بروح الفريق في نطاق مسؤولياته ومع التنظيم على حد سواء. الطريق الاول لاحتكار الترشيحات والمواقع سيغلق بالتدريج قنوات العلاقة بين الحزب والشعب.. اما الطريق الثاني، بجعل الجمهور شرايين التنظيم والتنظيم اوردة الجمهور، فلن يفتح المزيد من العلاقات فقط، بل سيدفع ايضاً اعضاء التنظيم والحزب لصقل كفاءاتهم وامكانياتهم.. ليجعلوا جواز مرورهم ملكاتهم وقدراتهم، وليس مجرد هوية الانتماء للحزب.
الشرق الاوسط.. أهي الفوضى، ام مرحلة الشعوب؟
اعتمد التوازن منذ مطلع القرن العشرين على عنصرين اساسيين. المظلة الراعية التي وفرها الاستعمارين البريطاني والفرنسي.. ثم بعد الحرب الثانية الدولتين العظميين المتصاعدتين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.
والثاني قيام الدول الوطنية الحاكمة للشعوب وليس المحكومة به، بعد تقاسم مناطق الخلافة حسب خرائط سايكس بيكو ووعد بلفور وقيام اسرائيل. هذا التوازن بدأ بالتفكك التدريجي بسبب تفاعلات متبادلة لـ ١- العوامل المحلية كالثورات ودور الحركات الوطنية والقومية وعودة الاسلام السياسي.. والذي اخذ ابعاده المختلفة.. كما في ايران وتركيا ومصر والسودان وافغانستان.. والتغيير في العراق..والانتفاضات الشعبية في الدول العربية واسقاطها الكثير من الانظمة.. وكذلك حركات المقاومة لاسرائيل كما في لبنان، وفلسطين الذي تعزز مؤخراً بصواريخ غزة والاعتراف الاممي بالدولة الفلسطينية.. و٢- العوامل العالمية كتفكك الاتحاد السوفياتي، وتراجع الولايات المتحدة من دولة عظمى الى دولة كبرى. لهذا تشهد دول منطقتنا تفككاً متزايداً لدولها، وسلطاتها الضابطة لامنها وتوازناتها الاجتماعية والاقليمية والدولية التي اقيمت على اساسها.
فمستقبل المنطقة يتارجح اليوم بين مساع جدية –والتي ستكون بطبيعتها منفعلة وعصبية- من شعوبها للوصول الى عقود تأسيسية او دساتير يمكن من خلالها بناء توازنات جديدة تعتمد على قوة الشعوب، وواقع نسيجها الحقيقي، بكل مطاليبه وتلاوينه.. لتاتي الدولة وحكوماتها حقيقية، متماهية مع الشعب، وليس منصّبة او مفروضة ومستقوية عليه.. او ستسود حالة من الانقسامات والفوضى التي ستأزم، بل قد تفجر كيانات الدول لمصلحة سلطات الامر الواقع للجماعات والمناطق.. والتي ستكون مصادر قوتها الاساسية المركبات الاثنية او الدينية او المذهبية وامتداداتها الاقليمية وحظواتها الدولية.. يقابل ذلك عالم خارجي ودول كبرى وتكتلات عالمية، تراجعت فيها انماط التدخل، لاسيما جيوش المشاة.. دون ان يعني ذلك تراجع اشكال التدخل الاخرى او انخفاض مستوى اهتمامها بما يجري في الشرق الاوسط خصوصاً، او بقية ارجاء العالم عموماً.
فالشرق الاوسط في مرحلة تاريخية لم يشهدها سابقا.. يعيشها مكشوفاً دون رعاية دولية خاصة، وبتفكك واضح لسلطات الدولة، وبشفافية انفلتت فيه مكبوتات اجتماعاته الحقوقية والمفاهيمية والانتمائية.. مما يهدد بمرحلة غير قصيرة لتغليب الخلافات والتصادمات.. او بانتصار الشعوب ومطالبها المختلفة.. وهذا يتطلب مفاهيم جامعة وقيادات واعية، تحول الخلافات والتباينات الى تعددية وغنى وتكامل وتنوع لمصادر قوتها.. وتفهم اهمية وحدة مصير المنطقة وشعوبها ودولها .