سقط اذن في بغداد فقط ٦٠ مليون م٣ من المياه، حسب الاستاذ عبعوب من "الامانة".. وهي كمية الماء التي يشربها سكان محافظة بغداد لاكثر من ١٣ شهراً.. وان كميات الامطار التي سقطت في عموم العراق في الاسبوع الاخير كانت ستكفي بمفردها، لو احسن استثمارها، زراعة حوالي نصف مليون طن من الحنطة، وهكذا.
وكالعادة فان اية نعمة لا تستغل تتحول الى نقمة وموت وانهيار الدور وتوقف وتعطل. فالمشكلة في العراق ليس انغلاق المجاري. فنحن لا نمتلك اصلاً مجاري بالشكل المطلوب.. فالمجاري البائسة هي للمياه القذرة.. وما لدينا منها لمياه الامطار، قديمة، وقليلة، وفي مناطق محدودة سواء في العاصمة او المحافظات.. ولا تشمل التوسعات السكنية خصوصاً العشوائية طوال العقود الماضية. كذلك لا نمتلك في المدن والارياف خزانات لحفظ المياه.. فدول كثيرة شجعت او اوجبت بناء خزانات في اقبية العمارات لغرض الخزن. اقصى ما نأمله ان تساعدنا الامطار هو ري المساحات المحدودة المزروعة فعلاً.. ورفع مستوى بعض الخزانات القليلة والمياه الجوفية.. وتحسين نوعية المياه وارتفاع مناسيب الانهار التي ستذهب هدراً في البحر.
لاشك ان جميع دول العالم تتعرض لظروف بيئية طارئة تعطل الحركة وتحصل فيها اضرار غير قليلة.. لكن في معظم تلك الدول تكون البنى والاستعدادات قد اتخذت باقصى حدودها، رغم ذلك يستقيل المسؤولون. اما لدينا، فالامطار شأنها شأن الامن والخدمات والبطالة وغيرها تشير الى خلل في مجمل النظام.. فمعدلات الامطار ليست كارثية ليصعب تصريفها واستثمارها.. فهي مجرد معدلات اعلى من المتوسط.. لكنها في النهاية، نعمة وضرورة، نصلي من اجلها. فالامطار، وما اسفرت عنه، دليل اضافي لتراجعنا وعدم تقدمنا.
فعقود التخريب والاهمال والانشغال بالحروب.. اضيفت اليها، بعد التغيير، سلسلة من السياسات والخطط الفاشلة.. التي وضعت اولوياتها في مواقع الخطأ والجهل.. ومنها الجعجعة، واطلاق الشعارات، واتهام الاخرين، والسعي للتنصل عن المسؤولية، ستجعل نِعم الله واقرب اصدقائنا –كالمطر- اعداءً لنا.
امة لا اعداء لها.. امة لا نهضة لها
العداوة جزء طبيعي ومحرك للحياة.. ولا وجود لكائن حقيقي او معنوي خالي العداوات.. والعداوة امر ايجابي يتعرف فيها الانسان على ذاته.. وتستنهض بها الامم قوتها وقدراتها وتعبئ طاقاتها وشعوبها.. وان من يريد ان يعيش من دون اعداء يعني انه يريد الاستسلام ويخضع لاحاسيس السكون والراحة، غير مدرك ان المفاجأة ستأتي، ويكون الضحية.
لذلك هزمت الدول التي لم تعرف اعداءها او عرّفتهم بشكل خاطئ.. وانتصرت الامم التي عرّفت جيداً اعداءها.. وبرز فيها رجالات ذكرهم التاريخ كبناة ومنقذين. فان لم تفعل ذلك فانها لن تعرف اصدقاءها وعلى من تعتمد.. بل لن تعرف نفسها ومصادر قوتها وضعفها. وهذا خطر كبير يهدد وجود وبقاء الامة.. فالموت وعوامله ضرورة يلد مع الحياة، لذلك فان الامم التي لا تعرف ـ بوعي وحساب وادراك ـ اعداءها، تصنع لنفسها اعداء وهميين وهذه مصيبة اكبر. ونحن في العراق من هذا النوع.. فابتلينا بسلسلة من المآسي.. ولم نتعظ.
خلال العقدين والنصف الماضيين فقط.. من هم الاعداء والاصدقاء من دول الجوار؟ تركيا، ايران، سوريا، الاردن، السعودية ام الكويت؟ تخبطنا فقادنا الوعي المغلوط والحسابات الخاطئة لان نجعلهم جميعاً اعداءنا. فدفعنا الثمن.. ليس فقط كاعتذارات صدام لرفسنجاني، او بتعويضات الكويت، بل موتاً وعزلة ودماراً وخراباً اخترق النفوس والعقول والثقافات ليصبح جزءاً من قناعاتنا الباطلة. جعلنا الجميع اعداءنا.. لأننا لا نعرف انفسنا جيداً، ولم نؤسس لوحدتنا كما يجب، ولم نستوعب جغرافيتنا وتاريخنا الذي استوعب خلافاته ونزاعاته بالفضاءات المشتركة والامتدادات المتبادلة.. فاعتبر بعضهم الشيعة، او السنة، او الكرد، او العرب والتركمان اعداء لهم.. فتحمس الجميع لعقله الضيق، واعدائه الوهميين.. وعبئ رأسه بوعي مزيف، ولسانه بمنطق عدواني مغلوط.. وتسلح في حججه بالقليل ونسى الكثير.. فنبش الماضي، مستدلاً بصفحة وفصل، متناسياً التاريخ والواقع بفصوله. فجعل هذا عميلاً وكافراً وطامعاً، فبالغ بنفس، واستهان بغيره.. وصار أبناء البيت والجيران كلهم اعداء.. متناسياً الاعداء الحقيقيين، الذين يمنعون وحدته ونهضته.
تشخيص الاعداء ليس عملاً مزاجياً.. ومركباتنا وامتداداتنا ليسوا اعداء.. وليس كل من يختلف معنا عدواً.. فالمزاجية سترتد على صاحبها، كما ارتدت العداوات المصطنعة علينا.. والعدو ليس بالضرورة كياناً، او شخصاً.. بل قد يكون واقعاً وحالة.. كالفقر والطائفية والارهاب والعبودية والاستعمار والاستبداد والظلم والجهل والتجزئة والمرض والتخلف.
الحسين (ع) هو الداعي وليس غيره، فلبوا النداء
يتساءلون ما سبب هذه الاعداد المليونية.. ولماذا تزداد عاماً بعد عام. يقولون لان الناس لا تحب العمل وتتهرب منه.. فهل صعوبات ثمان ساعات عمل يومياً ومهما كان شاقاً، اقسى من المشي عشرات الساعات لايام طويلة تحت الامطار والنوم على الارض؟
يقولون انه حب الطعام او الاجتماع بالاخرين.. فان كان الامر كذلك للبعض رغم ضعف الحجة، فلماذا يترك الناس بيوتهم الدافئة وطعامهم المألوف ويأتون من اماكن وبلدان بعيدة مذللين كل الصعوبات.. يقولون انها الطائفية.. فاذا كان حب اهل البيت (ع) طائفية، فالمسلمون كلهم طائفيون.. يقولون ان الامر يحدث الازدحامات ويعطل المصالح.. ويذكرون صعوبات النساء والصغار، وهذا ان كان صحيحاً فهو لا يتناول عين المواكب وحقيقتها وطبيعتها وابعادها، بل زيادة التسهيلات امام المواكب.. التي يجب ان لا تتحول الى توهين وقصور عن فهم ورؤية ما يجري. فهذه الجموع لم تخرج بامر من احد.. بل خرجت بامر الحسين.. فهو الذي يدعوها.. بعدل قضيته وبكل تفاصيل حياته وانتمائه وشهادته.. وما رفع من اجله لواءه ودافع عنه..
حاول كثيرون عبر القرون ايقافها.. ففشلوا.. وانتصرت هي.. لتحشد في كل عام المزيد من الناس والمحبين والسائرين في طريق الحسين. ليس من العراق فقط.. بل من العالم اجمع.. وليس من الشيعة فقط.. بل من السنة ايضاً ومن غير المسلمين. فالحسين ليس رمزاً دينياً وعقيدياً فقط.. بل بات ايضاً رمزاً انسانياً يستطيع ان يلهم اي انسان، واية قضية فردية او جماعية.. وان مواكبه ودروبها واشكالها وشعاراتها تجربة فردية.. لا تنظمها دولة او حزب، وغير موجودة في اية امة تنظيماً وسعة واهدافاً بهذا الشكل. فما ينظمها هو الرمز والقضية والناس.. فهي التي تشيد المؤسسات والهيئات وليس العكس.. قضية عادلة بمبادئها وقيمها يخرج لها الملايين لايام واسابيع.. فيقومون بواجباتهم العبادية، ويتوجهون لله ورسوله ويعبرون عن افضل ما في الانسان من تقوى واخلاق.. فيُخدمون ويأكلون وينامون ويستحمون ويطببون دون منة من احد ودون مقابل.. انه دم وعطاء الحسين عليه السلام.. فهناك شيء عظيم امامنا.. فلنتعلم منه ونرعاه ونضع انفسنا في خدمته ونتحد حوله شيعة وسنة، مسلمين وغير مسلمين. وسنجد كيف ان كل شيء سينتظم في النهاية.. بما يرضي الجميع.. ويحقق الصلاح للجميع.
الازمة.. مركز الثقل.. مركز القرار
المنعطفات الخطيرة – كالاخيرة- قد ترسم مستقبل البلاد.. فالموضوع اخطر من الانتخابات وصوتها. فامام الاحتمالات المفتوحة داخلياً وخارجياً، نقف بين خياري الحرب والسلام.. والوحدة والتقسيم.. والتقدم والتراجع.. والدكتاتورية والديمقراطية.. والصداقات والعداوات الداخلية والخارجية.
ومشكلة البلاد اليوم فقدانها مركز ثقلها الوطني الذي يشكل زخم حركتها.. وتنازعها في مركز قرارها ودفة قيادتها، الذي يحدد حركتها في اي من الاتجاهات اعلاه.
مركز ثقل العراق (والكلام عن بلد موحد لا تسيطر فيه ساحة على غيرها) هو –عموماً- حصيلة ثقل ثلاث ساحات اساسية في حركة تتوحد وتلتقي وتتزود بعوامل دفعها، وتحتوي ردود فعلها وخصوصياتها.. وهو ما اراد الدستور اطلاقه من حقوق وصلاحيات، وكبحه من توازنات ومراقبات، عبر النظام الديمقراطي البرلماني القائم على الاساس اللامركزي والاتحادي.
اما مركز القرار السياسي –وهنا سبب ومفتاح الازمة- فمتنازع في كل ساحة ووطنياً. فالكردستانية نظمت لحد كبير-عبر برلمان وحكومة الاقليم- مركز قرارها الداخلي، وبقيت مأزومة في مركز القرار الوطني.. واختلفت معه في تفسير الالتزامات الدستورية. اما الساحة "الغربية والشمالية" فانها بصدد حسم موضوع مركز قرارها الداخلي بين توجهين.. الاول القبول بالرؤى الدستورية مع رفض اي شكل من اشكال التهميش والاخضاع والتعسف وتحمل تبعات الماضي او املاءات الحاضر.. او النظريات "الصدامية" والتكفيرية بكل ماضيها وواقعها ومآلاتها. تبقى الساحة "الوسطى والجنوبية"، فتتجاذبها ثلاثة تيارات اساسية. الاول يوسع نفوذه في الساحة من خلال السلطة وردة الفعل التي يحدثها التصادم بالساحات الاخرى، وبوضع الدستور والقانون على الرف، وباستخدامه عندما يتطلب الامر.. واخر ينفتح على الساحات الاخرى ولو على حساب ثقله في ساحته، ويقبل ما كان يتردد فيه من مبادىء دستورية.. وثالث موزع بين الدستور وساحته والساحات الاخرى.
تتحمل الساحة الثالثة المسؤولية الاولى للازمة وحلها.. ليس لتقليل مسؤولية الاخرين، بل لثقلها الاكبر في البرلمان، والقرار التنفيذي، وحفظ وحدة البلاد. فواجبها قلب المعادلة باتجاه مركزي الثقل والقرار الوطنيين. فان فشلت في تحقيقهما بتطبيق الدستور والقوانين -لها وعليها- بتدبر وشجاعة وشراكة حقيقية، وبقيت تتماحك فيما بينها ومع الساحتين، والكيل بمكيالين، واعتماد ادوات السلطة لانتصار حجتها وتعطيل سلطات الاخرين، فلن ينفع التذرع بسلوكيات الاخرين، وستخسر ساحتها وبقية الساحات.. وتتعرض والبلاد لاضرار اكبر من التي تدعيها.. وتصبح اغلبية تعطل نصاب الوطن واستحقاقاته ليس الا.