اصبحت المقابر الجماعية بفضل السياسات الهمجية والدموية لنظام صدام البائد جزء من مشهد عراقي عام حافل بالماسي والويلات والاحزان، ومضمخ بدماء اعداد هائلة من الناس الابرياء، الذين لم يرتبكوا ذنبا ولا جريرة سوى انهم لم يقبلوا ان يكونوا ادوات طيعة له، او انهم وجدوا انفسهم جزءا من ميدان الصراع والمواجهة.
وفي يوم السادس عشر من شهر ايار-مايو من عام ٢٠٠٣ ، أي بعد الاطاحة بنظام صدام بسبعة وثلاثين يوما تم اكتشاف اول مقبرة جماعية في محافظة كربلاء، وكان ذلك بداية للعثور على مئات ان لم يكن الاف المقابر الجماعية في شتى انحاء البلاد.
ولاشك ان المقابر الجماعية تعد دليلا دامغا من بين كم هائل من الادلة والبراهين على النهج الارهابي الدموي لنظام صدام.
واذا كان العراقيون قد سمعوا بالمصطلح وعرفوا حقيقته وجوهره ومضمونه بعد التاسع من نيسان-ابريل من عام ٢٠٠٣، فأن التعبير والترجمة الواقعية العملية له بدأت مع وصول حزب البعث العفلقي الى السلطة في السابع عشر من تموز-يوليو من عام ١٩٦٨، وتصاعد وتائر ومديات ذلك التعبير وتلك الترجمة الواقعية العملية مع استحواذ صدام على السلطة مطلع عقد الثمانينات بعد تنحيته احمد حسن البكر في مؤامرة كانت كل خيوطها وخطوطها مكشوفة وواضحة للجميع.
ولعل ظروف واوضاع وعوامل مختلفة ساهمت في اتساع مديات المقابر الجماعية في العراق بشكل غير مسبوق في بلد في العالم، وعلى مر العصور، حتى ان جرائم نظام صدام خلال ثلاثة وعشرين عاما فاقت كثيرا جرائم الحكم النازي بزعامة هتلر في المانيا خلال الفترة ما بين عامي ١٩٣٣ و ١٩٤٥، ويخطأ من يتصور ان جرائم غرف الغاز النازية او ما يعرف بالهولوكوست تفوق في فضاعاتها المقابر الجماعية وغياهب الموت الصدامية التي ملئت العراق عرضا وطولا.
ومن ابرز الظروف والعوامل التي ساهمت في اتساع مديات المقابر الجماعية، الطبيعة الاجرامية لشخص صدام، ونزعته الديكتاتورية القائمة على رفض أي توجه معارض له حتى وان كان ذلك التوجه ذي طابع سلمي بعيد عن القوة، وكذلك سعي النظام الى تصفية كل خصومه او من يفترض انهم خصومه، والقواعد الشعبية القريبة منهم او المتعاطفة معهم، ودخول ذلك النظام في حروب عبثية افتتحها بحرب لاجدوى منها مع ايران دامت ثمانية اعوام، احرقت الاخضر مع اليابس مثلما يقولون وتسببت بهدر وضياع موارد وثروات بشرية ومادية هائلة، كان يمكن توظيفها واستغلالها لتطوير البلاد وتقدمها.
اذن عشرات الالاف من الاشخاص الذين كانوا في عداد ضحايا المقابر الجماعية بدوا من وجهة نظر النظام البائد يمثلون حالة واحدة، وهي حالة الرفض له، ذلك الرفض الذي تم التعبير عنه بوسائل واساليب مختلفة.
وهذه الاعداد الهائلة من ضحايا العهد البائد لم تكن تنتمي الى طائفة او شريحة مذهبية او قومية او دينية او مناطقية معينة، بل انهم كانوا يمثلون مجمل النسيج الاجتماعي العراقي.
وبحسب الدراسات الميدانية الاحصائية الصادرة عن جهات عراقية حكومية وغير حكومية وعن منظمة الامم المتحدةومنظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الانسان فأن عدد ضحايا المقابر الجماعية تجاوز اربعمائة الف شخص.
ولاشك فأن ذلك التأريخ الحافل بالاجرام يحتاج الى توثيق وتدوين دقيق، لانصاف الضحايا، والكشف عن كل تفاصيل وجزئيات الجرائم البشعة التي ارتكبها النظام البائد، والتي يبدو ان جرائم الجماعات الارهابية التكفيرية والصدامية التي تحصد يوميا ارواح مئات الناس الابرياء يوميا تعد استمرارا لها.