قد تبتلى مقاطعة أو مدينة أو قرية ما، ببعض الكوارث الطبيعة كالاعاصير والفيضانات والزلازل والحرائق والهزات الأرضية، أو تبتلى ببعض الأوبئة، وهذه جميعها خارج ارادة الإنسان، وتكاد أن تكون نسبة تدخله في حصولها شبه معدومة، وقد سلم فيها الناس أمرهم لقضاء الله.
أما كوارث الحروب والاقتتال والفتن والأزمات السياسية والاثنية والطائفية والنزاعات العشائرية، فهي من عند أنفسنا ولنا فيها اليد الطولى، كما أن أسباب حدوثها لاتأتي من فراغ ولا من لاشئ، بل إن جملة مبادئ وأفكار وقيم قد تسوق ذلك الحراك والرزايا وتحركها كمحرك أساسي لها وسببا لها.
ويتوقف بروزها وإنحسارها في المجتمع على مدى قوة الدولة ومؤسساتها وعلى مدى ضعفها،وعلى مدى درجة سيادة القانون وتنحيه، كما وللقضاء والمؤسسات الأمنية والاستخبارية الدور الكبير في شد ذراع الحكومة وفرض هيبتها وبسط نفوذها ووضع بصمتها في جميع مفاصل وحلقات المجتمع الجغرافية والشرائحية والمؤسساتية.
أما ماكان خارج هذا التصنيف هو انتشار واستشراء ظاهرة العصابات والجرائم الفردية التي تتقاعس السلطات المحلية من علاجها ووأدها والقضاء عليها بسبب الخوف والذعر الذي ينشره المجرمون وأفراد تلك العصابات في اوساط السلطات الأمنية المحلية، وبسبب التهاون في تنفيذ الواجبات الملقى على عاتقها، وبسبب الفساد الأداري المتأتي من المحسوبيات والتأثيرات العشائرية والوجاهية وصفقات الرشا والمحسوبية والمنسوبية، بحيث أن المجرم يظل يصول ويجول ويترنح مستأسدا ومنتشيا في طرقات وأسواق المدن، ومختلف الأماكن والدور السكنية، وفي اوصال الوحدة الادارية الحاضنة لمسرح الجريمة، وامام انظار واسماع جميع المؤسسات الحكومية والمدنية ويمارس دوره الوظيفي والتجاري والاجرامي بكل يسر وبشكل طبيعي،ويمرق نقاط التفتيش والسيطرات بأحدث سيارة وامضى سلاح، دون كشفه، وهم عنه غافلون.
كما وباستطاعته ملاحقة الضحية بشكل طبيعي أيضا، وابتزازه وبتعاون تلك السلطات التي تغض النظر عن جرائمه، وتزويده بالمعلومات الأمنية والأهلية التي تضمن سلامة تحركه، ويكأنها تعمل لصالحه بصفة عملاء، وبدلا من ذلك تعمل على اخفاء جرائمه، وبغلق وتعليق جميع ملفات قضاياه، وبتجاهل تنفيذ اوامر القاء القبض عليه اينما وجد، والتغاضي عن الملاحقة القضائية الصادرة بحقه، وعدم زجه في السجن، وعدم انصاف الضحية والمظلوم.
نحن لانقصد التعميم، بل التبضيع وابطاله ورموزه المفسدين، والكثرة الغالبة من أفراد السلطات المحلية والجهات الأمنية المنفذة هم المتفانين دوما في تنفيذ الواجبات وتطبيق القانون ولو على أنفسهم، وهم مثالا ونموذجا رائعا للنزاهة ومثلا اعلى للشرف والأخلاق الرفيعة والنزاهة والتواضع مع الناس والترفع عن الفساد والرذائل المهنية والوظيفية التي يمارسها المفسدون لمرض في قلوبهم وضحالة في نفوسهم مما ورثوه من أجهزة النظام السابق.
ولايخفى على الجميع، أن المواطن العراقي قد تأهل لمرحلة أنه يعرف كل شىء، ويستقرأ كل شئ، ويقرأ مابين الأوجه و السطور "يعني مفتح باللبن" ومعرفته هذه، لن تأتي من فراغ، بل من خلال الأوضاع القاسية والظروف الإستثنائية التي مر بها البلد وفرضت عليه كمواطن، وهذي المعرفة أيضا تقوده إلى تمييز الغث من السمين، والشريف من الوضيع والطيب من الخبيث، مهما اختلفت وتعددت الاقنعة التي يرتديها المنافقون.