فقد أدخلني هذا المشهد في أزمة نفسية حادة لايمكن تجاوزها مهما طال بي الزمن ومهما تواترت بي الأيام، ولاأدري هل هذه من علامات الساعة؟
عندما ابتعدت عن مركز المدينة جنيها، انتابني شعور غريب لاأعرف مصدره، يمكن بسبب سماعي أصوات اشم منها رائحة شجار وتمرد بين رجلين، قررت ان اسير بخطى ثابتة وبطيئة لكي أقف على هذه الحالة بذروتها وبدافع الفضول.
كان يلف المنطقة هدوء مطبق واجواء شبه مظلمة بفضل الانوار المتواضعة التي ترى من هنا وهناك والمنبعثة من مصابيح بعض البيوت القديمة.
كنت كلما أقدم خطوة، يقترب مني الصوت درجة، حتى إذا اقتربت من مصدره، فإذا هما رجلان يختصمان أحدهما ذو لحية كريمة بيضاء، وتبدو عليه هيبة العبادة، ووقار العمر الذي أمتد فيه الى نهاية العقد السادس، والآخر شاب متمرد في العقد الثالث من العمر وتبدو عليه أيضا علامات الغرور، والاندفاع، والطيش.
خصصتهما بالسلام وأنا مستمر في طريقي، وتظاهرت بأني لااسمع من كلامهما شيئا، وأوحيت لهما أيضا ومن خلال سلامي وطريقة شق طريقي اني لست فضوليا ولاأريد التدخل بينهما.
ماان سمع الرجل سلامي حتى تعلق بي، فإذا هو وقد بدى عليه الإرتعاش من قمة راسه حتى أخمص قدميه، ونظرت إلى وجهه بتمعن فقرأت في عينيه علامات الهضم والإذلال، وشفتيه ولسانه يابسات كأنهن خشبات بيض، بينما رأيت العكس في وجه الشاب ورأيت فيه عجب العجاب من حالات التمرد والاستهتار والغرور، وكان يتشاجر مع الرجل الآخر بتهكم وغلظة وبصوت مرتفع، وبأسلوب المتسكعين على غرار المشاجرات التي كانت تحدث في حديقة الأمة في الباب الشرقي، وعلى عكس خصمه-أي الرجل الآخر- والذي كان خجلا وحريصا كل الحرص على خفض الصوت والتستر على الحالة واحتواء الموقف.
بدأ الرجل يقص لي الحكاية وهو يتلعثم، وقال: "ياأخي أنا ماطلبت منه شئ خارج وسعه، أو فوق طاقته، كل الذي أردته منه أن لايعود إلى البيت في ساعة السحر، أو في ساعة متأخرة من الليل، لأن زوجته الشابة وأطفاله في انتظاره."فانتفض الشاب متمردا ومحتجا ومستهترا في أسلوب مارق ووقح ليس له مثيل، وقال في مامعناه: "اسمع، أنا رجل وقد بلغت الثلاثين من العمر، لاأنت ولا الأكبر منك، ولا أية قوة على وجه الأرض تفرض علي اوامر وسلوكيات معينة، 'اطب بكيفي واطلع بكيفي'، وتفوه بكلام آخر لايليق ذكره في هذا المقام."
اقتربت من الشاب، وكررت عليه نصيحة الخصم، ورجوته ان يتصرف مع هذا الرجل بكل لياقة وأدب.
وقلت له أيضا: 'وإذا لم ترق نصيحته لك فتكلم معه بأسلوب مؤدب' يعكس مدى تربيتك واخلاق عائلتك!
ولكنه انتفض علي أيضا ورفض عرضي وتكلم معي بغلظة ماكنت أتوقعها منه.
نظرت إلى الرجل الآخر فكان في قمة الانزعاج والاحراج، وتمنى لو أن تسوى به الأرض أو تبتلعه، أو أن يموت من فوره، وهو مضطرب كل الاضطراب، ومنكسر كل الانكسار.
أعدت الكرة مع الشاب قائلا له: عليك ان تكون موضوعيا مع الرجل لأنه يعبر عن حرصه عليك، وينصحك في الله، وان الدين النصيحة، واذا لم تعجبك نصيحته، فلاتأخذ بها، أو أرفضها بروح رياضية، ولاداعي لكل الذي جرى، فكان كلامي منه على انه في وادي وأنا في وادي آخر.
ثم اني دخلت عليه من باب آخر، لعله يرعوي أويتنازل قليلا عن حماقته وطغيانه، فقلت له: أسمع ياأخي، أسمع أيها الشاب، اني والله قد تحسست حرص هذا الرجل عليك، ومحبته لك، وبدا عليه أيضا انه لايريد لك الا الخير والسؤدد، "وثبت لدي انه يتعامل معك وكانك ولده، فلم لاتتعامل معه وكأنه والدك؟"
واستحلفك بالله العلي العظيم، لو كان هذا الرجل والدك، تتصرف معه بهذه الطريقة والأسلوب؟
واستحلفك بالله العلي العظيم، أترضى ان يتصرف شابا ما والدك بهذه الطريقة؟
فعليك ياأخي أن تتق الله، وأن تعيد النظر في تصرفاتك هذه معه، وأن تتكلم معه بكل أدب واحترام وان لاترفع صوتك عليه احتراما لشيبته!!
ولكن الشاب ظل متمسكا بغلظته وباسلوبه المتسافل، والخروج عن المألوف، وتصاعد اللغط بينهما الأمر الذي جعلني في حيرة من أمري، حول تراكم عدة أسئلة وحلول في راسي لم تجد طريقها اليهما بسبب الفوضى التي اشاعها الشاب وبسبب الانفلات الذي طغى على الحالة.
وماهي إلا لحيظات، وإذا بشاب آخر قد جاء مسرعا، وكأنه نزل علينا من السماء وقد بدت عليه علامات الشهامة والغيرة والمروؤة العربية الاسلامية، وإذا به يأخذ بثنايا وتلابيب ذلك الشاب ويوبخه أشد توبيخ، وقال فيه كلام يثلج القلب والضمير، انصرف على أثره بخفي حنين.
ثم أن هذا الشاب الشهم اعتذر مني وتشكر مني وألح علي في ان البي دعوته لاتناول معهم العشاء.
مازال الغموض يلف القضية، ومازال فضولي ضاغط علي لمعرفة ادق التفاصيل في معرفة درجة قرابة ابطال المشهد!
فقال لي الشاب: "هذا الرجل هو ابي، وذاك الشاب العاق المستهتر هو أخي."
ذهلت مما سمعت، واسترجعت وحمدت الله واتنيت عليه.
ثم قلت لهم: طرق سمعي مرة أن قضية مماثلة عرضت على القضاء، فما كان من القاضي الا ان أدان الابن وحكم عليه بالحبس لمدة سنتين والزمه بدفع غرامة مالية تعويضية باهضة لصالح الاب، وعليكم إذا تكررت هذه الحالة مرة أخرى، أن يعرض أمره للقضاء ليقول كلمته فيه، ويصير عبرة لمن اعتبر.
(ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم ترحمون)
"ومن أمن العقاب أساء الأدب"
"ولا أزيد على حرفا، ولااعقب بكلمة واحدة، واترك الحكم للمتلقي الكريم ليدلي برأيه. فعسى أن يكون "رأيا لله فيه رضا ولنا فيه صلاح".
علي الحاج
٠٢:٢٠.الثلاثاء ١٩.٠٣.٢٠١٣