وهذا الاختلاف والتقاطع يرتبط بتنوع زوايا النظر من جانب، ومن جانب اخر بتنوع وتعدد المشاريع والاجندات، ومن جانب ثالث، بزخم العوامل الداخلية والخارجية المؤثرة والموجهة لمسارات الامور فيه.
فهناك اليوم من ينظر الى الامور نظرة سوداوية متشائمة الى حد بعيد، وهناك من ينظر اليها نظرة مستغرقة في التفاؤل.. وبين هذا وذاك توجد نقاط التقاء وخيوط وصل وارتباط يمكن ان ترسم صورة واقعية او هي اقرب الى الواقع.
مكاسب وانجازات
لاشك ان الاطاحة بنظام صدام مثل بالنسبة للعراقيين نقطة تحول تأريخية مهمة، وبداية لعهد جديد، بعد عقود من الظلم والتسلط والاستبداد والطغيان، فضلا عن كونه كان تحديا كبيرا لبناء دولة مؤسسات حقيقية على انقاض دولة الحزب والعشيرة والعائلة.
ولعل ماتحقق رغم وجود الارادات الدولية والاقليمية المضادة للارادة الوطنية يعد كبيرا ومهما، فقد خاض العراقيون اربع تجارب انتخابية، ففي بداية عام ٢٠٠٥ تم انتخاب اعضاء الجمعة الوطنية (البرلمان المؤقت) ومعها الانتخابات المحلية الاولى، وفي نهاية ذلك العام تم اجراء الانتخابات البرلمانية الاولى بعد الاستفتاء على الدستور واقراره في الخامس عشر من شهر تشرين الاول-اكتوبر من ذلك العام، وفي عام ٢٠٠٩ اجريت الانتخابات المحلية الثانية، وفي عام ٢٠١٠ اجريت الانتخابات البرلمانية الثانية، واليوم يتهيأ العراقيون لانتخاب اعضاء مجالس المحافظات(المجالس المحلية) في العشرين من شهر نيسان-ابريل المقبل.
وهذه العمليات الانتخابية ساهمت الى حد كبير بأرساء اسس ومرتكزات النظام السياسي الديمقراطي رغم الظروف والتحديات الصعبة التي احاطت بأجرائها، والسلبيات والاخطاء التي رافقتها، واهم شيء اوجدته هو مبدأ التداول السلمي للسلطة وابعاد شبح الانقلابات العسكرية عن البلاد، الى جانب تكريس مبدأ الشراكة والمشاركة في ادارة شؤون الدولة والحكم، وان بصورة لم تكن-ومازالت-غير مرضية للبعض.
ومثلما يقول احد الكتاب "ان أي مطلع على أحوال العراق اليوم سيوافق على أن الزجاجة مملوءة لأكثر من نصفها. لم تتحقق التوقعات المفجعة للمتشائمين بشأن العراق، فلم تنقسم الدولة إلى ثلاث أو خمس دويلات صغيرة كما أشار إلى ذلك جو بايدن في عام ٢٠٠٦، ولم يتحول العراق إلى بوابة للجحيم كما حذر عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، ورغم محاولات الجماعات الإرهابية، لم ينزلق العراق إلى مستنقع حرب طائفية لا نهاية لها، كما توقعت كلير شورت عضو مجلس الوزراء البريطاني آنذاك".
والمنجز والمكسب الاخر، تمثل في حدوث نهضة اقتصادية لابأس بها، كانت ابرز معالمها ومظاهرها التحسن الملموس الذي طرأ على الاوضاع الحياتية لغالبية ابناء الشعب العراقي، اضافة الى انتعاش وازدهار الحركة التجارية، ومعها الحركة العمرانية بشقيها الخاص(الشخصي)، والعام (الحكومي والاستثماري)، مترافقا مع استعادة العملة الوطنية جزء كبير من قيمتها التي فقدتها جراء الحصار الاقتصادي الذي فرض على البلاد بعد غزو نظام صدام لدولة الكويت عام ١٩٩٠.
وتمثل المنجر الثالث في اتساع نطاق الحريات، وخصوصا مايتعلق بحرية التعبير وحرية ممارسة العمل السياسي، واداء الشعائر والطقوس الدينية، وماساعد في ذلك هو العدد الكبير جدا لوسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة والالكترونية، وكذلك منظمات المجتمع المدني، والاحزاب والتيارات السياسية، فضلا عن كسر و تحطيم قيود العزلة عن العالم الخارجي التي فرضها النظام السابق على العراقيين.
ورغم ان فضاءات الحرية في العهد الجديد حفلت بقدر غير قليل من الفوضى والاستغلال السيء بمختلف الاصعدة الاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية والاعلامية، الا ان ذلك كان مبررا ومقبولا الى حد ما بسبب الغياب الكامل لكل اشكال ومظاهر الحرية خلال حقبة النظام السابق.
اما المنجز الرابع فتمثل بتوفر الظروف والمناخات الملائمة لتستعيد المؤسسة الدينية بعناوينها المتعددة كالمرجعيات الدينية والحوزات والمدارس العلمية دورها وحضورها في المنظومة الاجتماعية في اطار التوجيه والوعظ والارشاد، اضافة الى تبني المشاريع الانسانية التي تحتاجها شرائح وفئات اجتماعية عديدة.
في حين تمثل المنجز الخامس في توجه النظام السياسي الجديد لاصلاح علاقات العراق الخارجية مع محيطه الاقليمي ومع المجتمع الدولي على وجه العموم، وتركز الاهتمام على الاطراف التي افتعل النظام السابق الحروب والصراعات معها مثل الجمهورية الاسلامية الايرانية والكويت وسوريا بالدرجة الاساس، وظهرت منذ البداة نوايا صادقة وتوجهات جادة لاغلاق ملفات الماضي، وطوي صفحات الخلافات، وبناء علاقات تقوم على اساس الاحترام المتبادل والتعايش السلمي وعدم التدخل بالشوؤن الداخلية.
اخطاء وسلبيات
وبما ان عملية الاطاحة بنظام صدام خضع لارادت دولية بالدرجة الاساس واقليمية بمستوى اقل، فأن جملة من الاخطاء والسلبيات قد حصلت، وانعكست مجمل اثارها وتبعاتها على العراقيين، والولايات المتحدة الاميركية كانت الطرف الاكثر تورطا في ارتكاب الاخطاء المقصودة وغري المقصودة.
الخطأ الاول تمثل بتدمير منظومة الدولة من خلال القرارات الارتجالية والمتسرعة التي اتخذها الحاكم المدني الاميركي للعراق بول بريمر الذي تولى ادارة الامور لمدة اربعة عشر شهرا، اي للفترة من شهر ايار-مايو ٢٠٠٣ وحتى نهاية حزيران-يونيو ٢٠٠٤، ومن بين تلك القرارات حل الجيش العراقي والاجهزة الامنية والمنظومة الاعلامية، ووضع اليد على موارد الدولة المالية، وقبل ذلك عرضت القوات الاميركية المحتلفة مختلف مؤسسات الدولة ودوائرها لعمليات سلب ونهب واسعة كان لها اثار ونتائج سلبية كبيرة.
والخطأ الثاني، ان الولايات المتحدة عملت منذ البداية على صياغة معادلات قلقة للحكم قامت على محاصصة طائفية وقومية ومناطقية اوجدت صراعات ومنافسات مستمرة، واشاعت اجواء من عدم الثقة، وللاسف فأن اطرافا وشخصيات سياسية وغير سياسية انساقت عن قصد او من دون قصد وراء تلك المعادلات القلقة، وراح البعض منها ينفذ اجندات خارجية لحساب هذا الطرف الاقليمي-الدولي او ذاك، ولم تعبأ كثيرا بالانعكاسات السلبية لذلك على المصالح الوطنية العامة.
وهذا التوجه فتح الابواب واسعة لدخول جماعات ارهابية مسلحة بعناوين مختلفة من وراء الحدود، لتبرز ظاهرة الارهاب المتحرك بمسارات مذهبية وطائفية بالدرجة الاساس وتلقي بظلالها على المشهد العام للبلاد، وهذه الظاهرة افرزت ظواهر اخرى من قبيل التهجير القسري والقتل على الهوية، والاستهداف الممنهج لاماكن العبادة والمراقد والمقدسات والرموز الدينية.
وكان هناك وجها اخر للارهاب هو الفساد الاداري والمالي، الذي بات الافة الكبرى التي تنخر بجسد الدولة العراقية، وتستنزف الاموال الطائلة وتبدد الطاقات والامكانيات والكفاءات البشرية، وتقدر جهات متخصصة حجم الاموال التي ضاعت بسبب الفساد بأكثر من مائة مليار دولار، وطبيعي ان الارهاب ومعه الفساد يفرضان حقائق ومعطيات سياسية خطيرة، وهذا ماحصل في بعض المنعطفات، بحيث تبين ان شخصيات نافذة في الدولة وتشغل مواقع عليا، متورطة بأرهاب وفساد كبيرين.
والمنجزات والمكاسب المشار اليها وكذلك الاخطاء والسلبيات لاتمثل الصورة بكل جوانبها وابعادها وزواياها، وانما هي جزءا منها، ولكن اذا وضعنا المنجزات والمكاسب في كفة والاخطاء والسلبيات في كفة اخرى، فأن كفة الاولى سترجح على كفة الثانية، وان كان مقدار الرجحان غير كبير جدا.
مارتن كوبلر ممثل الامين العام للامم المتحدة في العراقي يشير الى "ان الشعب العراقي يتمتع بثلاث نعم، هي الثقافة الثرية والتاريخية، وشباب نشط وحي، وثروة طبيعية"، وهذه النعم (العوامل) الثلاثة يمكنها فيما لو استثمرت بالشكل الصحيح ان تطوي صفحة الام الماضي لتفتح افقا وابوابا لامال المستقبل في بلد ضحى بالكثير وتحمل الكثير وخسر الكثير.