في كل عام، وفي ذكرى استشهاد آية الله العظمى السيد محمد الصدر (قدس)، تتجدد الآلام والذكريات الحزينة عن تلك الفترة السوداء التي مرت بحياة ووجود السيد الشهيد مع الوضع العام في العراق أبان تولي حزب البعث مقاليد الحكم عام ١٩٦٨، وعزم البعث على تنفيذ أفكاره وآرائه الشمولية والمعادية للدين الاسلامي وأفكار التحرر من الظلم والجور، والاعتزاز بالنفس والقيم الاخلاقية العليا والمبادئ السماوية، فأخذ الحزب على عاتقه تنفيذ أجندته الخاصة به والضغط على الشعب شيئا فشيئا، ومع تصعيد الضغط البعثي بدأت الجماهير تتحسس الاختناق الفكري والسياسي والديني وصولا الى قرب مصادرة رأي الجماهير العراقية وصوتها ورأيها، وبعد تسلم الطاغية صدام دفة الحكم بشكل فعلي وقاطع عام ١٩٧٩ أخذت تلك المضايقات والضغوط تتصاعد حدتها ونبرتها لتصبح معلما مميزا و منهجا رسميا للحكومة ولشخص رئيس الحكومة نفسه الذي دأب على تطبيق أقسى أشكال وأنواع العذاب والقهر، بل انه أخذ يعذب ويقتل ويسفك الدماء بيديه دونما أي وسيط آنذاك ضد كل من كان لا يسير على منهجه وخططه المرسومة من قبله لتحقيق أهدافه الشخصية وغاياته الضيقة، وصار تلذذه بتعذيب الآخرين وسفك دماءهم علاجا نفسيا لمرضه الإجرامي.
خلال تلك الفترة كان السيد الصدر يتابع بدقة، وعن كثب، كافة تفاصيل المشهد العراقي والسياسة الصدامية كالإهمال الخدمي والتعليمي والصحي والاجتماعي المتعمد، وبإصرار عجيب، ومع انتشار ظواهر جديدة وطارئة في المجتمع العراقي كالتخلف والفقر والجهل والأمراض والأوبئة، فأنبرى الشهيد السعيد لتحمل مسؤوليات أخلاقية وشرعية ووطنية اقتضت منه الضرورة تحملها متمثلا بجده الإمام الحسين (ع) الذي لم يدع منفذا لإصلاح الأمة والحكام الأمويين الفاسدين إلا واتجه اليه مضحيا بنفسه وأهل بيته وأصحابه في اخر المطاف، وهذا ما خطاه الصدر ففي أول الأمر أتخذ جميع الوسائل والأساليب لإيقاف هذه الهجمة البعثية الشوفينية التي لم تستهدف الدين الاسلامي فحسب بل والانسان العراقي وكرامته وحريته أيضا وخنق أي صوت وطني يدعو للحرية والكرامة، ولعل في مقدمة الوسائل والاساليب التي أتبعها السيد الشهيد هي توعية الجماهير بمخططات النظام الصدامي واهدافه وغاياته المريضة ووسائله المستخدمة كمحاولات التفريق بين أبناء الشعب الواحد من خلال ايجاد اختلافات بسيطة ــ وليست جوهرية ــ في الأفكار والرؤى ومحاولة ايهام البعض وتصويرها على انها خلافات جذرية وممتدة الى أعماق بعيدة من السنين والأجداد لتجعل منهما طائفتين متناحرتين خالقا بينهما العداوة والبغضاء، ولذا فكان الشهيد الصدر دائما وفي كل حدث أو مخطط صدامي جديد يرد على هذا الهجوم من خلال الدعوة المستمرة للتوحد ونبذ التفرق بين كافة طوائف وقوميات الشعب، ولم يقف الشهيد عند حدود توجيه الدعوات فقط وانما عمل بشكل فعلي وواقعي على توحيد القلوب والآراء العراقية في كافة المدن ما بين السنة والشيعة والعرب والأكراد وغيرهم من القوميات والطوائف الأخرى، وهذا ما سجلته له بافتخار عظيم كتب التاريخ في كتاباته وخطبه ومؤلفاته إضافة الى مواقفة العملية كمنهاج عملي وتطبيق حي فاعل لهذه المواقف والآراء.
ومثلما أحس الصدر بخطورة وجود حاكم جائر وظالم مثل صدام على رأس الحكم، كذلك فقد أدرك صدام المقبور خطر بقاء الصدر على رأس المعارضين بالنسبة لمنهجه وفكره ومخططاته وغاياته لاسيما مع تنامي الوعي الجماهيري والتفاف الجماهير الكبير حول قيادة وآراء السيد الصدر والتي تلمسها الطاغية ولاحظها بشكل أثار مخاوفه وهواجسه في أكثر من مناسبة، فكانت عدة أسباب جوهرية لاعتقاله مع أخته العلوية بنت الهدى يوم الخامس من شهر نيسان للعام ١٩٨٠ وتعريضه للتعذيب المتنوع حتى استشهاده يوم التاسع من نيسان الذي أصبح يوما لتحرير العراق وسقوط الصنم الديكتاتوري بعد ثلاث وعشرين عاما من استشهاده، ليكون يوم استشهاد الصدر يوما للحرية والتغيير السياسي وبناء نظام سياسي وديمقراطي جديد يستمد في حكمه وقيادته لرأي الشعب ونصرته.
ومع ان الطاغية المقبور قام باعتقال السيد الصدر وإعدامه، إلا ان صوته بقي على مدى السنين عاليا مدويا، وتخلد فكره وأسمه الى أبد الآبدين، كونه قد أدرك منذ الأيام الأولى لتفتح بصيرته ومعرفته ان الحق وحده هو الذي يبقى، بينما قد فنيت وماتت كل وجوه الطغاة والظالمين على مر العصور والدهور مهما تسيدوا ومكنت لهم السيطرة على رقاب العباد وأموالهم والتحكم بمصائرهم، وتشاء القدرة الإلهية التي تمهل الطغاة حينا ان يكون يوم استشهاد الصدر وأخته هو يوم تحرير العراق من براثن البعث والحكم الصدامي الجائر فيسقط صنم الطاغية بكل أسلحته الفتاكة وجيوشه الجرارة ومخابراته وحزبه الفاشي الذي أحال الأرض العراقية مقابرا جماعية وسجونا ومعتقلات وملأ قلوب الأمهات حزنا وكمدا على أبنائها ورجالاتها ممن صبغوا أرض الرافدين مع صدرهم الخالد وليكونوا قربانا ملحميا لبناء العراق الجديد.