امرأةٌ أيضًا في سنّ الشباب وصلت بلحاظ المقام المعنويّ، بحسب ما نُقل في الروايات، إلى حيث تحدّثها الملائكة وتظهر لها الحقائق. "المحدَّثة" أي من تحدّثها الملائكة وتتكلّم معها. وهذا المقام المعنويّ والميدان الوسيع والقمّة الرفيعة هي في مقابل جميع نساء عالم الخلقة. إنّ فاطمة الزهراء (عليها السلام) في قمّة هذا العلوّ العظيم تقف وتخاطب كلّ نساء العالم، وتدعوهنّ لطيّ هذا الطريق. هؤلاء الّذين كانوا عبر التاريخ - سواء في الجاهلية القديمة أم في جاهلية الحديث - قد سعوا لتحقير المرأة وجعلها متعلّقة بهذه الزخارف والزينة الظاهرية ولا همّ لها سوى الموضة واللباس والزينة والذهب والزخارف، ولا همّ لها سوى أن تقضي هذه الحياة في لهوٍ وعبث، وقد تحرّكوا من أجل ذلك، إنّ منطقهم هو منطق يشبه الثلج والجليد مقابل حرّ شمس المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، سيذوب وينعدم. يعرّف الإسلام فاطمة - هذا العنصر المميّز والملكوتيّ الممتاز - بعنوان الأنموذج والأسوة للنساء. وهو تلك الحياة الظاهرية والجهاد والعلم والبيان والتضحية وحسن التبعّل والأمومة والزوجة والمهاجرة والضحور في جميع الميادين السياسية والعسكرية والثورية، والتفوّق في جميع الجوانب بحيث يخضع لها كلّ الرجال العظماء، بل هذا أيضًا المقام المعنويّ والركوع والسجود ومحراب العبادة والدعاء والصحيفة والتضرّع والذات الملكوتية وتألّق العنصر المعنويّ وكذلك عِدْل ووزان أمير المؤمنين (عليه السلام) والنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم). المرأة هي هذه. والقدوة للنساء الّتي يريد الإسلام أن يصنعها هي هذه.
توجد نقطةٌ في حياة الزهراء المطهّرة (عليها السلام) يجب الالتفات إليها. علمًا أنّنا لن ندخل في بيان المقامات المعنوية لهذه السيدة الجليلة، ولسنا قادرين على أن ندرك هذه المقامات ونفهمها. وفي الحقيقة أنّ أوج قمّة المعنوية الإنسانية والتكامل البشريّ، الله تعالى وحده، هو الذي يعرف هؤلاء العباد ومن هم بمستواهم ويرى مقامهم. لهذا ما كان يعرف فاطمة الزهراء (عليها السلام) سوى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وأولادها المعصومين عليهم السلام. الناس في ذلك الزمان والأزمنة اللاحقة، ونحن في هذا الزمن، لا يمكننا أن نشخّص ذلك التألّق والتلألؤ المعنويّ الّذي كان موجودًا فيها. فنور المعنويات الساطع لا يمكن أن يأتي إلى عين أيّ أحد، وتعجز عيوننا الضعيفة والقاصرة عن أن ترى تجلّي الإنسانية الساطع الّذي كان موجودًا في هؤلاء العظماء. لهذا، لن ندخل في مجال الحديث المعنويّ عن فاطمة الزهراء (عليها السلام). لكن في حياتها اليومية توجد نقطة مهمّة وهي الجمع بين حياة امرأة مسلمة في سلوكها مع زوجها وأبنائها وقيامها بمسؤولياتها في البيت من جهة، وبين مسؤوليات الإنسان المجاهد الغيور الّذي لا يعرف التعب في التعامل مع الأحداث السياسية المهمّة بعد رحيل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث جاءت إلى المسجد وخطبت واتّخذت المواقف ودافعت وتحدّثت وكانت من جهاتٍ أخرى مجاهدة بكلّ ما للكلمة من معنىً، لا تعرف التعب وتتقبّل المحنة والصعاب. كانت عابدة ومقيمة للصلاة في الليالي الحالكة وتقوم لله خاضعة خاشعة له، وفي محراب العبادة كانت هذه المرأة الصبية كالأولياء الإلهيين تناجي ربّها وتعبده.
هذه الأبعاد مجتمعةً تمثّل النقطة الساطعة لحياة فاطمة الزهراء (عليها السلام). بعض الناس يتصوّر أنّ الإنسان عندما يكون مشغولًا بالعبادة، وهو أهل الذكر، لا يمكنه أن يكون سياسيًا. أو بعض آخر يتصوّر أنّ أهل السياسة، سواء من الرجال أم النساء، إذا كانوا حاضرين في ميدان الجهاد في سبيل الله بفاعليّة، إذا كنّ من النساء، لا يمكنهنّ أن يكنّ ربّات منزل يؤدّين وظائف الأمومة والزوجية والخدمة، وإذا كان رجلًا لا يمكنه أن يكون ربّ منزل وصاحب دكّان وحياة. يتصوّرون أنّ هذه تتنافى فيما بينها وتتعارض في حين أنّ هذه الأمور لا تتنافى مع بعضها بعضًا ولا توجد ضدّية بينها من وجهة نظر الإسلام. ففي شخصية الإنسان الكامل تكون هذه الأمور معينة بعضها بعضًا.
تعتبر شخصية الزهراء المطهّرة (عليها السلام) في الأبعاد السياسية والاجتماعية والجهادية شخصية مميزة بحيث إنّ جميع النساء المجاهدات والثوريات والمميّزات والسياسيات في العالم يمكنهنّ أن يأخذن الدروس والعبر من حياتها القصيرة والمليئة بالمحتوى والمضمون. امرأةٌ وُلدت في بيت الثورة، وأمضت كلّ طفولتها في حضن أبٍ كان في حالة مستمرّة من الجهاد العالميّ العظيم الّذي لا يُنسى. تلك السيّدة الّتي كانت في مرحلة طفولتها تتجرّع مرارات الجهاد في مكّة، وعندما حوصرت في شعب أبي طالب، لمست الجوع والصعاب والرعب وكلّ أنواع وأصناف الشدائد في مكة، وبعد أن هاجرت إلى المدينة أضحت زوجة رجلٍ كانت كلّ حياته جهادًا في سبيل الله، وفي كلّ المدّة، الّتي كانت نحو ١١ سنة، في حياتها المشتركة مع أمير المؤمنين، لم تمرّ سنة أو نصف سنة على هذا الزوج لم يكن فيها في جهادٍ في سبيل الله ولم يذهب إلى ميدان المعركة. وكانت هذه المرأة العظيمة والمضحية زوجةً لائقةً لرجلٍ مجاهدٍ وجنديّ وقائد دائمٍ في ميدان الحرب. فحياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) إذًا، وإن كانت قصيرة ولم تبلغ أكثر من عشرين سنة، لكنّها من جهة الجهاد والنّضال والسعي الثوريّ والصبر الثوريّ والدرس والتعليم والتعلّم، والخطابة والدفاع عن النبوّة والإمامة والنظام الإسلاميّ هي بحرٌ مترامٍ من السعي والجهاد والعمل وفي النهاية الشهادة أيضًا. هذه هي الحياة الجهادية لفاطمة الزهراء (عليها السلام) الّتي هي عظيمة جدًا واستثنائية وفي الحقيقة لا نظير لها، ويقينًا ستبقى في أذهان البشر - سواء اليوم أم في المستقبل - نقطةً ساطعةً واستثنائية.
وفي أجواء العلم كانت عالمةً عظيمة. تلك الخطبة الّتي ألقتها فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مسجد المدينة بعد رحيل النبيّ، هي خطبة، بحسب كلام العلامة المجلسيّ، يجب على فطاحل الفصحاء والبلغاء والعلماء أن يجلسوا ويفسّروا معاني كلماتها وعباراتها؛ فهي من العمق بحيث إنّها بلحاظ جمالية الفن كأجمل وأعلى كلمات نهج البلاغة. فاطمة الزهراء (عليها السلام) تذهب إلى مسجد المدينة وتقف مقابل الناس وترتجل ولعلّها تتحدّث لمدّة ساعة بأعذب وأجمل العبارات وأكثرها بلاغةً
ومع كلّ تلك المصائب والصعاب أتت إلى المسجد وخاطبت الجمع الغفير من وراء الحجاب (الستار)، وكلّ كلمة من هذه الخطبة بقيت في التاريخ.
إنّ حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في جميع الأبعاد كانت مليئة بالعمل والسعي والتكامل والسموّ الروحيّ للإنسان. وكان زوجها الشاب في الجبهة وميادين الحرب دائمًا، وكانت مشاكل المحيط والحياة قد جعلت فاطمة الزهراء (عليها السلام) مركزًا لمراجعات الناس والمسلمين. إنّها ابنة النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) المفرّجة للهموم، وقد صارت في حياتها في تلك الظروف بمنتهى العزّة والسموّ، وقامت بتربية أولادها الحسن والحسين وزينب، وإعانة زوجها عليّ (عليه السلام)، وكسب رضا أب كالنبيّ. وعندما بدأت مرحلة الفتوحات والغنائم لم تأخذ بنت النبيّ ذرّة من لذائذ الدنيا وزخرفها ومظاهر الزينة والأمور الّتي تميل لها قلوب الشابات والنساء ،ويقول الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) إنّ أمّه وقفت تعبد الله في إحدى الليالي - ليلة الجمعة - "حتى انفجر عمود الصبح". ويقول الإمام الحسن (عليه السلام) إنّه سمعها تدعو دائمًا للمؤمنين والمؤمنات، وتدعو للناس ولقضايا المسلمين العامة، وعند الصباح قال لها: "يا أمّاه أما تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بنيّ الجار ثمّ الدار هذه هي الروحية العظيمة. إنّ جهاد تلك المكرّمة في الميادين المختلفة هو جهاد نموذجيّ، في الدفاع عن الإسلام، وفي الدفاع عن الإمامة والولاية، وفي الدفاع عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي حفظ أكبر القادة الإسلاميين وهو أمير المؤمنين (عليه السلام) زوجها. وقد قال (عليه السلام) مرّة بشأن فاطمة الزهراء (عليها السلام): "ما أغضبتني ولا عصت لي أمرًا ومع تلك العظمة والجلالة، فإنّها كانت زوجة في بيتها، وامرأة كما يقول الإسلام.
هكذا كانت عبادتها وفصاحتها وبلاغتها وحكمتها وعلمها ومعرفتها وجهادها وسلوكها كابنة وزوجة وأمّ، وإحسانها إلى الفقراء. مرّة أرسل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلًا عجوزًا فقيرًا إلى بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له أن يطلب حاجته منهم، فأعطته فاطمة الزهراء (عليها السلام) جلدًا كان ينام عليه الحسن والحسين عليهما السلام حيث لم يكن عندها شيء غيره، وقالت له أن يأخذه ويبيعه ويستفيد من نقوده. هذه هي الشخصية الجامعة لفاطمة الزهراء (عليها السلام). إنّها أسوة للمرأة المسلمة في كل شيء.