الوحدة الاسلامية ، والتقريب بين المذاهب الاسلامية ، والحكم الاسلامي ، ومنهج اهل البيت (عليهم السلام ) في بناء الانسان والمجتمع ، والصفوة ، والحرية ، ومفردات ومفاهيم اخرى من هذا القبيل شغلت حيزا كبيرا جدا من الاهتمامات الفكرية والسياسية والثقافية ، للشهيد اية الله السيد محمد باقر الحكيم (رضوان الله عليه ) .
ولعل المتتبع بدقة وتأن لما كتبه وقاله السيد الحكيم يلحظ جملة مسائل مهمة منها ، انه كان يحرص على المزج والتوفيق في اطار اي موضوع يبحثه ويتناوله بين ما هو سياسي وفكري وثقافي واجتماعي ، مما يظفي على الموضوع مورد البحث شمولية واتساعا يتيح للمتلقي الاحاطة الوافية بكل جوانبه .
فهو – اي سماحة السيد الشهيد – حينما يتناول قضية سياسية ما ، ويحدد الاطر والاتجاهات العامة للتعاطي معها ، فأنه يأخذ بعين الاعتبار الضوابط والقيود الشرعية والاخلاقية والاجتماعية ، اي ان البحث والتركيز لايقتصر لديه على مسألة تحقيق مكاسب سياسية من نوع ما فقط دون الالتفات الى الوسائل والاساليب المتبعة ، وكذلك الاثار الجانبية المترتبة ، ان على المدى القريب او على المدى البعيد .
فمواجهة الظلم والاستبداد مبدأ عام اقره القران الكريم من خلال قوله تعالى (ولاتركنوا للذين ظلموا فتمسكم النار ) ، و (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) ، و (قاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله ) ، ولكن تطبيق هذا المبدأ العام والعمل به لابد ان يكون خاضعا ومرتبطا بالظروف الموضوعية والذاتية ، التي هي دون غيرها تحدد الاسلوب الذي ينبغي اتباعه ، فمرة تتم مواجهة الظلم والاستبداد من خلال اللجوء الى القوة المادية – اي العنف ، ومرة اخرى تتم من خلال الحكمة والموعظة الحسنة – اي الدبلوماسية ، ومرة اخرى من خلال المزج بين هذين الاسلوبين .
ولعل اية الله السيد الحكيم الذي حرص على امتداد مراحل نضاله السياسي ، ونشاطه الفكري والثقافي والاجتماعي على الالتزام بهذا المنهج ، استفاد من جملة عوامل وظروف ساعدته على العمل والتحرك وفق هذه القاعدة السليمة .
ماهي هذه العوامل والظروف ؟ .
يمكننا هنا ان نشير الى البعض منها بشيء من الايجاز :
اولا : كان للجو العائلي الذي نشأ فيه السيد الشهيد دورا كبيرا في تنشأته تنشأة سليمة ، حيث ان وجوده بالقرب من مرجع ديني كبير كان يعد من ابرز زعماء الطائفة الشيعية على مر التأريخ ، الا هو اية الله العظمى السيد محسن الحكيم ، اثر الى ابعد الحدود على صياغة وتكوين شخصيته دينيا واخلاقيا وفكريا وثقافيا ، وحتى سياسيا .
ثانيا : ومضافا الى الجو العائلي فأن البيئة الدينية – حيث المرجعية الدينية والحوزة العلمية في النجف الاشرف – ساهمت هي الاخرى في صياغة وتكوين شخصية السيد الشهيد ، الذي تتلمذ على يد عدد من ابرز العلماء وتأثر بأفكارهم ورؤاهم وسلوكياتهم الاخلاقية والاجتماعية ، ومن هؤلاء العلماء اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر ، واية الله العظمى السيد ابو القاسم الخوئي ، واية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم ، واية الله العظمى الشيخ مرتضى ال ياسين ، واية الله السيد محمد حسين الحكيم ، واية الله السيد يوسف الحكيم .
ثالثا : الاوضاع السياسية والاجتماعية ، وطبيعة التحولات الفكرية في العراق ، وعموم العالم الاسلامي ، والعالم على وجه العموم خلال عقدي الخمسينات والستينات ساهمت في تفتح وعي السيد الحكيم واتساع افقه الفكري والسياسي والثقافي ، ومن المؤشرات الواضحة على ذلك هو تأليفه بحثا قيما تناول فيه اشكاليات مفهوم القومية العربية ، وهو لما يبلغ العشرين عاما من عمره، فضلا عن حضوره الثقافي والفكري المتميز مبكرا في الاوساط الثقافية والفكرية والاكاديمية.
رابعا :سعيه الدؤوب منذ نعومة اظفاره الى اكتساب كل ما هو جديد من جوانب المعرفة المختلفة التي عمقت قدرته على التحليل الدقيق للاحداث ، وعلى الاستنتاج والاستنباط الصحيح ، ووضوح الرؤية لما هو خارج نطاق المستقبل المنظور .
كل ذلك جعله يحتل مواقع بارزة ومؤثرة ، ويسجل حضورا متميزا في شتى الميادين ، وخلال كل المراحل ، حتى استشهاده ظهيرة اليوم الاول من شهر رجب ، الموافق التاسع والعشرين من شهر اب الماضي .
ولعل اضطلاع السيد شهيد المحراب بأدوار فكرية وثقافية وسياسية فاعلة خلال تلك الفترة ومساهمته في وضع وبناء الكثير من المشاريع التي كان لها اثرا بالغا في تنمية الوعي الاسلامي بين اوساط المجتمع العراقي جاء في وقت كانت فيه الافكار العلمانية القومية والماركسية والاشتراكية تتمتع بأرضية لابأس بها ، وتجد من يتفاعل معها بسبب من عاملين ، الاول طبيعة الاوضاع والظروف العالمية المتثملة اساسا بالحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق ، والرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الاميركية ، حيث كان ذلك الصراع محفزا ودافعا لشرائح من الشباب الى اعتناق الفلسفة الاشتراكية – الماركسية كرد فعل على الفلسفة الرأسمالية – الليبرالية التي كان ينظر الى معاقلها على انها رمز الاستعمار والهيمنة واستعباد الشعوب ، دون الالتفات كثيرا الى جوهر ومضمون هذه الفلسفات ،وتحديدا الفلسفة الاشتراكية – الماركسية من قضية الدين ، وعدم الاهتمام بالقدر الكافي بذلك الموضوع من قبل اعداد من الشباب الذين انبهروا بصخب وضجيج شعارات المعسكر الشرقي طيلة عقود الخمسينات والستينات والسبعينات.
اما العامل الثاني فيتمثل في انه لم يكن الوعي الاسلامي قد بلغ مستوى كبيرا ، وامتد الى مساحات واسعة من المجتمع.
في هذا الجانب فأن الشهيد اية الله السيد الحكيم ، الذي كان في مرحلة الشباب ساهم في مواجهة هذه الموجه الخطيرة ، والتي كانت السلطات الحاكمة تعطيها زخما من القوة لتوظيفها من اجل اضعاف الخصوم ، ومساهمته كانت بأتجاهين ، اتجاه سياسي – فكري – ثقافي ، تمثل على سبيل المثال بمشاركته مع عدد من علماء الدين بتوجيه رسالة الى عبد السلام عارف الذي كان رئيسا للبلاد يعلنون فيها رفض القرارات الاشتراكية التي اصدرتها السلطة ، وكذلك كان له دور غير قليل في النتاج الفكري الكبير للشهيد اية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (رضي الله عنه ) ، والمتمثل اساسا بالمؤلفين القيمين (فلسفتنا) و (اقتصادنا) ، حتى ان السيد الشهيد الصدر اشاد به في المقدمة التي كتبها للكتاب الاول ، حيث وصف الشهيد الحكيم بـ (العضد المفدى) ، هذا فضلا عن نشاطات السيد الشهيد الاخرى المتمثلة في التدريس بكلية اصول الدين ، وفي كتابة الكثير من الدراسات والبحوث العلمية القيمة ، والمشاركة في الندوات والمؤتمرات والقاء المحاضرات ، وكذلك المشاركة بأصدار مجلة الاضواء .
اما الاتجاه الثاني لشهيد المحراب فتمثل بالنشاط والحركة الاجتماعية في اطار المرجعية الدينية ، التي تتمحور اساسا على تقديم الخدمات للناس والسعي الى حل مشكلاتهم ، وفي نفس الوقت تنمية الوعي والثقافة الدينية والسياسية لديهم ، فقد كان السيد الحكيم غالبا ما يمثل والده المرجع الكبير الامام الحكيم في الكثير من المناسبات ، ويتحرك في الاوساط الاجتماعية موفدا من قبل المرجعية ، وقد كان – وبشهادة الكثيرين – اهلا للمهمات التي اوكلت اليه من خلال قدرته على التعبير عن ظروف الواقع ومتطلبات المرحلة وفهمه العميق لمختلف الاحداث والوقائع في الساحة العراقية وخارجها ، وكذلك من خلال التواضع والبساطة والقدرة الكبيرة على الاستيعاب والتحمل والصبر ، ولعل كل من عمل معه وكان قريبا منه في المهجر يدرك ويشخص بكل يسر وسهولة كل هذه الصفات لديه، والتي منحت شخصيته بعدا اخر على قدر كبير من الاهمية ، قد لايعير له البعض المقدار الكافي من الاهمية، وخصوصا في خضم العمل السياسي اليومي المتواصل.
ولاشك فأن التوفيق بين العمل السياسي – الجهادي ، والنشاط الفكري – الثقافي ، والحضور الاجتماعي امر ينطوي على قدر من الصعوبة ، وربما لايتمكن كل شخص من تحقيقه ، ولكن اية الله السيد الحكيم كان من بين من نجحوا ايما نجاح في التوفيق بين كل تلك العناوين.