وانتجت هذه المسلسلات داخل إطار فني منمق وإمكانيات هائلة قل نظيرها في الساحة العربية المتلفزة.
عموما جاءت موجة المسلسلات هذه مع موجة التوجه التركي السياسي الأردوغاني الهادف لتدمير الذات العربية، تمهيدا للغزو السياسي الطائفي والعسكري الارهابي، ليتآزرن معا جميعا لتحقيق تلك الأهداف المرسومة عاجلا وآجلا.
وتساهم بعض القنوات الفضائية لحث النخب الشبابية العربية لركوبها والترغيب على متابعتها بطرق إغرائية وإغوائية في هذا الآن ، من خلال الدعاية المشبوهة، وبالتالي وعلى مدى طول مدد العروض فإن هؤلاء، وأعني الشباب صاروا وكأن أحدهم صار واحدا من دوبليرات تلك المسلسلات .
وحصيلة الشباب الذين ركبوا هذه الموجه كضحية من ضحايا الغزو الثقافي والفكري، قد فاق التصور من حيث الكم والنوع، واقصد بالنوع "هو المدى الذي وصلته هذه النخب من درجة التردي والتداعي في اضمحلال الاخلاقيات والسلوكيات العامة، وإبدال الصفات الجيدة والأصيلة بتصرفات شاذة ومقززة على مستوى الشارع وفي البيت لتتنافى مع الذوق العام، ماجعل أغلب الشباب أن ينفصموا ويبتعدوا كثيرا عن احترام وممارسة العلاقات والأواصر العائلية والمجتمعية والدينية السليمة.
فعلى تواتر الأيام ترسخت وبقوة، تلك العادات والقيم الدخيلة التي إستألها ومارسها الشباب بعد غياب سلطة الرقابة الذاتية والعامة.
بحيث أصبح الشاب بمثابة قنبلة موقوتة يصعب التعامل معه خوفا من انفجاره في أي لحظة، اضافة للتأثر الشديد بالمواد التراجيدية التي تطرحها تلك المسلسلات كالابتعاد عن الايمان بالوطن وبالتدين وبالمبادئ وبالقيم الانسانية المتعارف عليها والتي جبلنا الدين الاسلامي عليها، فتبعا لذلك ضعفت علاقة الشاب بامه وابيه واخوته وبقية أفراد أسرته وعشيرته وبيئته ومحيطه الاجتماعي، للحد الذي صار فيه مقلدا جيدا لمادة تلك المسلسلات، كطريقة اللبس والمظهر الخارجي وحتى طريقة الكلام والحركات البدنية وطريقة التفكير والتعامل مع الآخرين" وكأنه خبير فوضى وبلادة، فد نزل على هذه الأمة من الفضاء"، وفد تجرد أيضا من العاطفة والخشونة والرومانسية ومزاولة العلاقات الانسانية ذات الفطرة السليمة، وصلة الأرحام، وأصبح ويكأنه مقطوعا من شجرة لايفكر الا في نفسه ومصلحته وأنانيته، وكأنه قد اكل من لحم خنزير، لا بل ظل يسعى أيضا لمروادة الافعال الخلقية الشاذة، والتشبث لممارسة مقدمات العنف كحيازة الأسلحة الجارحة والقاتلة كالأسلحة الكاتمة للصوت وتحري المخدرات، والبحث عن مغامرات انتقامية وجزافية يترتب عليها الحاق الاذى بالآخرين قد تصل لحد الاعتداء الجائر أو القتل لأسباب تافهة جدا.
كما وأصبح الشاب مشروعا للإنصهار في توجهات مشبوهة وتنظيمات دونية، وصيدا سهلا للإرتماء في أحضان الأجندة الأجنبية التي تعمل جاهدة لخرطه في صفوفها لتنفيذ مهام صعبة ومشبوهة وغاية من الخطورة، كالتجسس والإرهاب والانخراط في ميليشيات إرهابية، مقابل قبض حفنة قليلة من المال الذي تصحرت منه نفسه ويداه منذ نعومة اصابعه.
هكذا يذهب-بضم الياء- بشبابنا كضحية لهذه المسلسلات الهابطة والتي تستهدفهم وتصدعهم في الصميم دون عناء أو جهد مبذول من قبل تلك الجهات المستفيدة ، وقد تكون الدولة شريك في هذه العملية دون ان تشعر بذلك.
فعلى الدولة وبجميع مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والفنية والدينية، إذا إرادت ان تنأى بنفسها عن هذا الوزر، والحفاظ على الشباب من الانحدار إلى الهاوية والانجرار إلى ماوراء تلك الصيحات والصرعات، فعليها ان تقوم بحملات توعوية مبرمجة على المرئي والمقروء والمسموع تحذر فيه من مغبة هذا السلوك الخطير والنهج المشبوه من ناحية الابتعاد عن الادمان على متابعة هذه المسلسلات من قبل الشباب والناس عامة، وايجاد حلول سريعة لملأ الفراغ الفني التي نعاني منه الناس.
كما ان للعائلة والمدرسة والجامعة وعلماء الدين الدور الأكبر في مكافحة هذا الابتلاء الذي وقع على رؤوس شبابنا الذي يتراءى لهم على انه رحمة وهو في حقيقة الأمر نقمة مابعدها نقمة.
ولانعفي القنوات الفضائية ومحطات الاذاعة والتلفزيون الحكومية وغير الحكومية المخلصة والرزينة، من مسؤولية التغاضي عن هذه الحملة لكي نستطيع انقاذ مايمكن انقاذه من فلذات الأكباد من هذا الانحدار الخطير.
ويقع على أهل الفن العراقي من الفنانين الغيارى من الممثلين والمنتجين والمخرجين والنقاد والمؤسسات الفنية الاخرى بجميع أنماطها وتوجهاتها الوزر الأكبر قدر تعلق الأمر بملأ الفراغ والتصحر الذي أوجدته المرحلة والنظام السابق على الشاشة العراقية الكبيرة والصغيرة من الأعمال العراقية الجيدة والهادفة على مستوى السينما والمسرح والتلفزيون، وبدلا من حشوها بنتاجات وأعمال سخيفة لاتمت إلى الواقع العراقي بشيء، كالتهريج والنعيق والصياح والشغب الخيالي الفارغ من الفكرة والمحتوى والمضمون والهدف، أو الأتيان بالمجون وتأليه الشخصيات والمحاكاة المقلدة.
وعلى المؤسسات العراقية الفنية استقطاب النخب الفنية المبدعة والصاعدة في المحافظات والاقضية وأحتضانهم ودعمهم ماديا ومعنويا لتبني انتاج واخراج أعمال عراقية جيدة تتلاءم مع المرحلة لملأ الفراغ، سيما وأن الساحة العراقية وساحات المحافظات والاقضية قد تكللن بأعمال عراقية فنية راقية ناجحة من ابداعاتهم وجهودهم الشخصية، شهدت لها الاوساط الفنية العربية والعالمية بالابداع والتفوق وحصد الجوائز الرفيعة، والعمل كذلك على كسب واحتواء الشباب للتفاعل معها،من خلال بناء المسارح، ودعم الاتحادات الشبابية والطلابية والنسوية، بغية العزوف عن تلك الأعمال المستوردة والدخيلة على واقعنا العراقي الاصيل الذي يحن له الجميع، كأقوى قاسم مشترك بين المكونات العراقية التي عبثت بها أذرع الأخطبوط السياسي، وسكين الإرهاب الغادرة، وعصا الفرقة العوجاء.
وأختم بقولي: فأقول بحرقة قلب وباعلى صوتي -ياناس ياعالم- الفن ليس -دك وركص- وتهريج وإكسسوارات وميوعة وتقليد الآخرين!!
أو عرض سخافات على انها كوميدية مضحكة.
الفن رسالة وتبشير وتبصير.
والفنان "ليس بسياسي ولا رجل دين ولا أي شئ من هذا وذاك"، الفنان هو:
"ذلك الرجل المثقف الواعي صاحب المثل والأخلاق والقيم، الذي يستطيع ان يتقمص الشخصيات بكل صدق وأمانة لإيصال الحقيقة لأخلاد الناس، ويستطيع كذلك ان يمخر التاريخ ويصححه على وفق الحقائق التاريخية المنصفة.
والفنان هو الدالة والمبشر والمبصر والمؤشر الدقيق إلى الأشياء والحقائق والمواقف، والذي لايغش ولايضل ولايكذب ولايطري ولايداهن.
والفنان الناجح والاصيل هو الذي يستطيع ان يغير المسارات الخاطئة، وان يغير قناعات الناس نحو الحقيقة وصناعة الحياة وانتزاع الأوهام والخزعبلات الخاطئة من عقولهم وضميرهم."
فرجاءا رجاءا اتركوا هذا الفن الهابط الذي كنتم تمارسونه أيام حكم النظام السابق على أنه فن مرحلة وكبديل تكتيكي لملأ الفراغ الفني آنذاك، -بسبب الخوف من قسوة النظام في حال انتاج أعمال ساخرة أو تراجيدية مبدعة تحاكي الواقع وتقفز بالرائي والمتابع إلى خارج حدود المرحلة-.
أو لا بأس من البقاء في داخلها-أي المرحلة في حال عدم التمكن من الانسلاخ منها- لتفكيك طلاسمها وحيثياتها والدلالة على كل ماهو صالح فيها وأنيق، أو طالح وهزيل.
والفن والفنانون هم ليسوا أدوات للأنظمة، بل يمكن ان يكونوا أدوات للشعب إن صح التعبير، كما ان الفنان هو ذاك الشخص "المرآة" الذي يعكس الصورة الصادقة لقاعدته الفنية المتكونة من عدة شرائح وشعوب، فكلما كان الفنان صادقا في عرضه كلما كانت الصورة التي تحاكي المتلقي اكثر صدقا ووضوحا.
وأمر خطير ومفصلي آخر، هو ان يكون الفنان والمسرحي خاصة، دالا ومدلا لقاعدته لتحري أسباب الخير ومشتقاته لإعتناقها، وتحري أسباب الشر ومشتقاته لإجتنابها والعزوف عنها، بمعنى ان "الفنان هو مبشر ومهماز صادق ودقيق يلتمس منه قيادة ونصح وتوجيه قاعدته وأن يدلها إلى ركوب المسالك الصحيحة التي توصلهم إلى النجاة، وتفكيك الطلاسم والشكوك التي تعتري طريقهم، لا ان يجعل من نفسه مضحكة، على انه يضحك الناس وبالمقابل نرى ان الناس هي التي تضحك عليه وليس له"، وهذا الدور الهابط هو ليس من عمل واختصاص الفنان بل هو من اختصاص "المهرج" الذي يعمل داخل أسوار المتعة وقضاء الوقت للناس الخالية من المشاكل (الفايخة)، وهي أماكن عرض الهرج والمرج "السيرك".
وأتسائل هل أن المسلسلات التركية المدبلجة، فرضت نفسها على المشاهد العراقي، ليتابعها كإكسير فني بديل للفن العراقي الاصيل؟
وهل تقبل غيرة الفنان العراقي ان يترك مواطنيه عرضة لقرصنة الدراما الأجنبية الهابطة والمشبوهة الأغراض؟
وهل الثقافة العراقية مارست دورها في التشخيص والتصدي والبحث والاحتواء وتقديم الحلول السريعة والبدائل، ودعم الفن والفنانين، من أجل الحفاظ على المواطن من القرصنة الفكرية، واحترام حقوقه من خلال تمتعه بأعمال فنية رائعة تحاكي وجدانه وتجسد معاناته وتعبر عن مظلومياته وتطلعاته، أم أن "وزارة الثقافة" لايعنيها الخطاب؟
أم أن شكسبير كان على خطأ لما قال: "أعطوني خبزا ومسرحا أعطيكم شعبا مثقفا"؟
والله ولي التوفيق.
علي الحاج
١٢.٠٦.٢٠١٣