الفساد هو الآفة الأخطبوط القذر، الأكثر خسة وقذارة من بين كل التداعيات والموبقات، والنشاز الأبخس في اللعبة السياسية والادارية والأمنية والاجتماعية، والاقتصادية، والمالية، والتنموية، قذرا بجلده وبلحمه وشحمه وبممارسيه، وبأذرعه السنخية الخائنة، ذوات الأنبثاق التجادلي والترادفي والانتهازي، وهو الأرض الخصبة الصالحة لإنبات وترعرع الإرهاب -بنوعيه المنظم والعشوائي- ولجميع التداعيات التي يعاني منها البلد طيلة الفترة التي تلت السقوط، والذي أبتليت به الأمة كنفثة خبيثة من نفثات إبليس وشياطينه من الجن والإنس.
والفساد في العراق كظاهرة امتدت لسنين من هذا الزمن الصعب، وهو بمثابة الهواء والماء للارهاب، الذي يسهم في إدامة حياته واطالة عمره وزيادة في فعالياته النوعية،ليتضامن مع المحاصصة السياسية جنبا لجنب لابراز دورها الفعال في تغذية الإرهاب وبقائه مترنحا على قامات العراقيين وجاثما على صدورهم.
والفساد في العراق هو ضرب من ضروب الاستهتار والتسافل وخيانة الأمانة الوظيفية والوطنية والاجتماعية والشرعية، والمروق المبني على إستغلال ظروف البلد الانتقالية وظروف شعبه المظلوم -الذي يتحرى سبل العيش الحلال والكريم أسوة بشعوب المنطقة بما حباه الله من خيرات كريمة ومتعددة قد حرم منها بسبب تخبط السياسات التي تبوءت ناصية العراق في الماضي والحاضر- ويؤشر على مدى درجات الجشع وتدني مروءة واخلاق الفاسدين أنفسهم ويدل على سوء وخبث نواياهم ونفوسهم الضعيفة الموسومة بالدناءة والخسة، فضلا عن أنه سلوك تحرمه جميع الأديان السماوية والقوانين الأرضية، وضمير قلق تنبذه النواميس الوضعية وتستنكره الأعراف الاجتماعية، وتصرف شائن يخل بالشرف العام والخاص، ومرفوض انسانيا وإجتماعيا وأخلاقيا.
ويعتبر الفساد هو السبب الاساسي للإمتدادات التي يمهدها للارهاب، والمتمم لتشطيب أهدافه، وتمكين غطرستة التي يتسببها في التهام وقتل النفوس البريئة بدم بارد وغدرها بطرق يكاد ينفرها حتى الحيوان المفترس.
وللفساد ضلع كبير في تخريب الاقتصاد الوطني والأهلي، وتعويم العملة وغسيل الأموال، وتقويض الأعراف والسنن الحسنة، ليقوم وباعتباره الوجه الآخر للارهاب ورديفه المخلص الذي يمهد له الطريق، للوصول لتنفيذ أهدافه الإجرامية الخبيثة بكل سهولة ويسر، ومااخس بصماته-أي الإرهاب- التي تركها في رحاب وطننا الجريح وماأبشع ضرباته التي اوقعها في صفوف شعبنا المجاهد قتلأ وفرقة، وغرس من تداعيات اجتماعية واقتصادية، اضافة لعظيم النكبات الإنسانبة والبشرية التي خلفها، من مجازر انسانية جماعية وفردية بشعة بطريقة التصفيات والاستنزاف، فضلا عن اسهامه المترادف لما خلفه النظام الغوغائي المنهار من ظلامات بحق الوطن والشعب من مقابر جماعية وتصفيات جسدية بحق النخب الدينية والاجتماعية والسياسية المناضلة، ومن تعطيل للتنمية العولمية للبلد وشل لقدراته الاقتصادية والانتاجية، وتفكيك للعرى الاجتماعية والأعراف الوضعية والتقاليد العراقية العريقة، اضافة لتداعيات مؤثرة أخرى لو وضعت في ميزان لعدت من عيار النكبات الكبيرة.
وضعف المعالجات السريعة والحازمة والحاسمة في اقامة الحدود وتطبيق القوانين وترجمتها إلى أنظمة وقوانين وإلى واقع حال بحق الفساد والمفسدين هو الآخر عامل فعال من شأنه أن يسهم في توسيع رقعة استعار الفساد في مؤسسات الدولة والمجتمع كإستعار النار التي تسري في الهشيم.
وإخفاق الكهرباء وعجزها عن تلبية متطلبات الطاقة الانتاجية للبلد سبب يضاف لمجمل خسائر البلد لمليارات الدولارات وحرمانه من التطور الصناعي والتنموي، وهذا يعني بالتأكيد فتح رافد لايستهان به من روافد انعاش الفساد الاداري والمالي.
أما تداعيات توزيع المناصب الحساسة في مؤسسات الدولة القيادية والادارية والوظائف المتنوعة الأخرى بشكل محاصصي وبعيدا عن تحقيق مبدأ العدالة والكفاءة لأغلب تلك المناصب في ظل واقع التجربة الديموقراطية المزعومة جعل من واقع الادارة في العراق المتصفة بالحصافة والكفاءة والإنسيابية الراقية فريسة للتحزب السياسي ومرتعا لتوجهات المحسوبية والمنسوبية المنافية لمبدأ وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ومد تلك المناصب والملاكات باشخاص يفتقرون للقدرات الادارية الخلاقة والكفاءة الوظيفية المتميزة، العاجزة عن ملء حيز المسؤولية الملقاة على عواتق شاغلي تلك المناصب والدرجات خارج منظومة الضوابط والمؤهلات القياسية، الأمر الذي ساهم في ايجاد نقطة تتصف بالضعف والوهن وسهولة الاختراق من قبل المفسدين والارهابيين المندسين والوكلاء وعملاء الطابور الخامس وبقية الطوابير التي تمثل الأجندة الخارجية والداخلية والتي لاتريد الخير للعراق والعراقيين لتمرير نواياهم الفاسدة والخبيثة للوصول إلى عمق مؤسسات الدولة المهمة ومؤسسات الأمن ومؤسسات صنع القرار لإفسادها وجعلها مطية في ركائب قوائم الإرهاب والفساد، فضلا عن تعويم اقتصاد البلد برمته بين نظام الاشتراكية الهالك والنظام الرأسمالي الحر المتهالك المتجرد من الانسانية والبعيد كل البعد عن الواقع العراقي العاطفي الموضوعي الموصوف بالبساطة والطيبة والقناعة والنزاهة والعفة والشرف، وبهذه الطريقة أصبح الاقتصاد العراقي عائما بين كماشتي الاتجاهين، وبهذا فالمؤسسات الأمنية والادارية المشرفة على كفاءة الأداء أصبحت متحيرة في أن أي من الوجهتين تتبع!؟ "مثل ذلك كمثل الغراب الذي اضاع المشيتين".
ويبقى الفساد المتعلق بشراء أصوات الناخبين هو الاشد خطرا من بين جميع أنواع الفساد على الدولة والشعب وعلى هيبة الدستور والقوانين المنبثقة منه، وعلى هيبة المجالس التشريعية ومصداقيتها وثقة الشعب بها، وعلى مستقبل العملية السياسية برمتها، بوصول اناس فاسدين وانتهازيين همهم الوحيد رعاية مصالحهم الخاصة وتكوين أحوالهم من حال إلى حال بالمال السحت الحرام المسروق من استحقاقات العراقيين وأقواتهم من أجل الاثراء الفاحش على حساب مصلحة البلد العليا وتطلعات المجتمع، وافشاء الفساد المتعلق بدفع الرشا والوعود الكاذبة من قبل المرشحين لبعض طبقات الشعب الفقيرة والمحتاجة لأبسط مقومات الحياة ومتطلباتها الانسانية لشراء اصواتهم وذممهم بطرق رخيصة في مرحلة سابقة لمواعيد اجراء الانتخابات التشريعية لمجلس النواب والمحافظات،"ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على مافي قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها، ويهلك الحرث والنسل والله لايحب الفساد، وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد."
وفي هذه الحالة فنحن بصدد تشريع قانون يحرم ويمنع هذه الظاهرة الوضيعة منعا باتا بوضع عقوبات رادعة بحق المرشحين الفاسدين ادناها حرمان المرشح من حق الترشيح واسقاط اسمه فورا حال ثبوت هذه الجريمة بالشياع أو التلبس.
بهذا وبسبب الفساد يصح القول على أن الدولة العراقية انتقلت من مفهوم القبضة الحديدية في تنفيذ الأحكام بطابع ديكتاتوري محض إلى مفهوم الدولة الديموقراطية المتخبطة والمترددة في تنفيذ الأحكام بسبب خلط الأوراق، وهكذا يبدو الأمر للعيان والمراقبين عن كثب، في ظل ديموقراطية عرجاء "لاتغني من فقر ولا تشبع من جوع"ذلك لأنها ساهمت في تعطيل بعض الحدود والتلكؤ في تنفيذ وتفعيل بعض القوانين المرعية الخاصة بتنفيذ العقوبات بحق المدانين، وأدت إلى إستفحال ظاهرة تسيب بعض الاشخاص المكلفين بالخدمة وخارجها وصولا إلى تسيب دوائر ومؤسسات حكومية وتنظيمية برمتها مما اضفت على أن توصف الدولة ب"السائبة"، ووضعها في حيز كماشة الإرهاب والفساد، مثلها كمثل الضحية التي تنتهشها الضباع من جميع الجهات وهي لا تحرك ساكن بسبب الشلل الذي تعاني منه لكثرة الجروح والآلام والضربات.
هذا وقد بلغت جذوتا الفساد والإرهاب حدا لايطاق، ولايمكن باي حال من الأحوال السكوت والقبول بواقع الحال هذا الذي بلغ مراتب تجاوز الخطوط الحمراء بارتكاب سلسلة من المجازر التي راح ضحيتها ثلة من خيرة رجال العراق ونساءه وأطفاله الأبرياء كان آخرها سلسلة التفجيرات في مدينتي " الصدر وطوزخورماتو"وبقية أنحاء العراق، إذ لايعقل أن يبقى العراق -دولة وحكومة وشعبا- مكتوف الأيدي لهذه الدرجة للحد الذي "لن يستطيع إلى هذه الساعة بوضع المجتمع الدولي امام مسؤولياته الانسانية والأخلاقية والقانونية إزاء مايتعرض له الشعب العراقي من قتل بشع وفضيع وبشكل يومي على يد المجاميع الإرهابية المدعومة من قبل دول وجهات معلومة ومسماة ويعرفها الجميع وبالأدلة الدامغة.
فهناك -وبحسب معرفتنا كمواطنين بسطاء-محافل دولية قائمة بذاتها تعنى في النظر بهذه القضايا، اضافة لعناية هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ومؤسسات دولية وانسانية أخرى قد لانعلمها،إذ ذكرنا في مقالات سابقة أن تقوم وزارة الخارجية العراقية والداخلية ووزارة حقوق الإنسان ونقابة المحامين بأن ياخذن أدوارهن في ايصال صوت الحق العراقي لتلك المحافل لفضح تلك الجهات وايقاف المد الإرهابي واخذ التعويضات التي خلفها الإرهاب....ومسيرة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة".
ولاشك ولا ريب أن الإرهاب مازال قائما وجاثما على أقفية العراقيين، ويعزى سبب قيمومته لإتكائه على الفساد، فإذا وقع الفساد أو انحسر وقع معه الإرهاب وانحسر، وقضية الايقاع بالفساد أصبحت من القضايا المتكرر ذكرها دون جدوى، ووضع الخطط اللازمة للقضاء على بؤره بشكل بات أمرا ذي ضبابية غير معهودة في العراق وفي قضائه المتزن الرصين، كما لايمكن القبول بأن تبقى المنظومة الاستخبارية العراقية متأخرة عن الركب العالمي المتطور في معالجة الملفات الأمنية الشائكة والمعقدة، واحتواء العمليات الاجرامية واحتوائها وكشفها قبل وقوعها، وماالأجهزة الخاصة بكشف المفرقعات والمتفجرات وآلية استخدام الكلاب البوليسية ماهن الا أدوات متممة لخطط المنظومات الاستخبارية المتطورة وليس بديلا عنها.
والتساؤل الشعبي والمراقبي الذي يفرض نفسه على الواقع المرير الذي تتعرض له أرواح العراقيين بالازهاق الجماعي اليومي هو: "هل أن حالة إعلان الحرب على الفساد مؤجلة إلى إشعار آخر؟"، وهل أن احتمالات التأجيل قائمة على أن ابطال الفساد وكبار طبقة الاروستقراطين الجدد وبعض كبار المسؤولين وبعض النخب السياسية المساهمة في تأجيل صنع قرار الحرب هم ممن تشملهم الحرب؟
أو أن مثل هذا القرار يحتاج لأن يوضع في سلة صفقة القرارات المستوردة؟
ويقينا أن التأجيل المزمن والمتكرر للحرب على الفساد سيؤثر حتما على ارباك المؤسسات الحكومية والشعبية والمنظماتية ويسهم في تآكلها واضعافها على نحو أن العجز في أكتشاف حالات الفساد والاخبار عنها وعدم مكافحتها بات في حكم المؤكد، بل وعرقلة الإجراءات القانونية بناء على طلب السلامة والخوف من العواقب، والحفاظ على المواقع القيادية والادارية والامتيازات الممنوحة للأشخاص صار هو الصفة السائدة في الجو الحكومي والمؤسساتي ، وسيطيل في عمر الإرهاب وعملياته ومضاعفة قوة فعله في انزال اقصى وابشع جرائم القتل والابادة الجماعية في الشارع العراقي، وسيزيد في رقعة مساحة الهوة بين الشعب والحكومة، ويزيد في شدة التباين الطبقي والمادي بين شرائح المجتمع وارتفاع معدل البطالة وغسيل الأموال، وارتفاع في معدل الجريمة فيها، كما ويربك المؤسسات القضائية ويساهم في افتقارها لإجراءات قانونية رادعة تتناسب وحجم الجريمة وماتتركه من آثار مادية وأدبية من ثنايا المجتمع.
وتبقى مشكلة ظاهرة تفشي الفساد بأنواعه قائمة في البلد، مادام أن قضية التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة مرهونة بعرقلة الإجراءات القضائية والقانونية من قبل المتورطين بارتكاب جرائم الفساد وممارسته بشكل علني وملموس وبما يتلاءم مع طبيعة الضغط الارهابي المرجعي على كبار المفسدين من كبار المتربعين على كراسي نظم التشريع والتنفيذ في اعلى رأس الهرم في مؤسسات الدولة، واعتبارهم للفساد على أنه جزء لايتجزأ من معتقد الإرهاب وامتداداته.
وعلى هذه الوتيرة فإن تلك الامتدادات لم تكن مقتصرة على احتواء الكبار في بودقة الفساد فحسب بل امتدت أذرعها الأخطبوطية وحبائلها الشيطانية لتشمل صغار الموظفين في الدوائر الحكومية والمكونات المجتمعية، ويكأنهم وقد اصيبوا بمرض ممارسة الشخصيات المتعددة الأدوارحتى انك لاتكاد أن تميز بين الموظف النزيه والموظف المفسد، أو المؤمن المخلص دون غيره من المنافقين.
وعلينا إذا اردنا النهوض بالبلد وتخليصه من الواقع الفاسد المأساوي المتلبد بظاهرتي الفساد والإرهاب علينا أن نساهم فورا بتفعيل المؤسسات الادارية الكفوءة، وايجاد مؤسسات سياسية خالية من المحاصصة والولاءات الجانبية، و"فلترة" جميع مؤسسات الدولة من المفسدين، بإعتماد آلية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، على أن يتزامن كل ذلك مع إعلان حالة الحرب على الفساد والقضاء عليه قضاءا مبرما، وإعلان حالة الطواريء وفرض الأحكام العرفية على الإرهاب لفترة غير محدودة، لها الأثر الكبير في انحسار الفساد والإرهاب على حد سواء، لكي نضمن تهالك الإرهاب بشكل نهائي وانحساره، وتجفيف منابعه تلقائيا والى الأبد.