و ما كان ذلك الأنقطاع إلّا لإنشغالي ببعض الكتابات التي كانت تطغى عليها التقرير السياسي لتوضيح معالم بعض الأحداث و لكشف الوجوه البرلمانية و الحكومية التي تسترت بآلأسلام و الدّين و آلوطن لسرقة حقوق الشعب العراقي والأمة بعد ما ثبت لي بأنّها تعيش في أدنى مستوى ثقافي و فكري لتسطح الجامعات والحوزات في متبنياتها و تسلط سياسيين غير مثقفين في مراكز المسؤولية .. هذا بعد عزل النظام البعثي الجاهلي شكلياً عن واجهات السياسة و الحكم في العراق و الذي كان له الدور الأكبر في إفشاء الجهل و العنف و الفساد بين الناس و بآلتالي قتل الأنسان و ترك العراق أرضاً سبغة!
نسأله تعالى أن يوفقنا لتقديم الأفضل لأنقاذ هذا الوضع و الأنسانيّة و بآلأخص إنقاذ السياسيين و الأحزاب و البرلمانيين منهم من آلجهل المركب الذي أحاط بهم بسبب آلجذورالفكرية و المعتقدات الشكلية ألمذهبية الهزيلة و الأحزاب السياسية و القوانين العشائرية التي تحكم أدمغتهم و علاقاتهم و روابطهم و مواقفهم في الحياة!
مشكلة الفكر:
لعلّ عبارته – أيّ مالك - البليغة التي قالها قبل نصف قرن عبّرتْ عن كلّ القضية الفكرية المعاصرة التي تمر بها امة ألعرب كلّها بل كل آلشعوب, حين قال:
[لا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها]
حيث أوعز المفكر الجزائري (مالك بن نبي) مشكلة الأفكار إلى بعض الأنماط و آلطرق الخاطئة في التفكير الأنساني, و كيفية التعامل مع الواقع و الأشياء و النظريات, أرى من الضروري التأمل في دراساتها بعمق لمعرفة مدى تأثير و دور الفكر في نهضة و تطور المجتمعات, حيث أشار في أهم مباحثه لمشكلة الأفكار و آلأنماط الفكرية الخاطئة من أجل تجنبها للوصول إلى مدارج الكمال و بآلتالي النهضة الشاملة للمجتمع, حيث يعتقد كما آلفلاسفة الآخرين بأن الفكر هو الأساس في نهضة أيّة أمّة.
أنماط التفكير ألخاطئ :
ضمان الحكم الصحيح على الأمور سواء كانت مواقف شخصية في العلاقات أو على مستوى الأحداث، يكون من خلال متابعة طريقة التفكير ابتداءً، فكثيرة هي الأخطاء التي يسقط فيها العقل البشري والتي تحتاج إلى وضوحها وتحري السلامة منها عبر منهج صحيح.
و آلأهم من هذا هو ملاحظة الجذور الفكرية و العقدية التي على أساسها يتمّ التعامل و الحكم على المواقف و الأحداث, و كلما كانت الأفكار و الجذور الفكرية التي يؤسس عليها الفرد عقيدته, كبيرة و واسعة؛ كانت أحكامه أقرب و اصح من ذلك الذي يحكم عليها من خلال منطلقات محدودة و تفكير محدود أو وضع إجتماعي أو سياسي محدود!
التفكير المنغلق:
يمكننا تمثيل الوضع الثقافي و الفكري لأمة من خلال مكونات ثلاث:
المجتمع كمجموعة من الناس ..
و آلأفكار كمفتاح للحل و آلتعامل مع قضايا المجتمع!
و يتمثل هذا النوع من التفكير في أنّ صاحبه مجرّد ما يقرأ الخبر أو يسمع عن حدث مفاجئ، ينصب نفسه قاضيًا و محللاً و مفسرًا و حتى قوّة منفذه .. فتراه قد صنّف الناس من حوله إلى مدانين و ضحايا، و عدم النظر في دائرة الألوان, فالأمر قد حسم من قبله بالأبيض والأسود من دون الألوان الأخرى!
كما أن هناك قوالب ثابتة و محدّدة مصنفة لكل الناس من حوله فلا يجهد عقله للبحث عن حقيقة الحدث و حيثياته و أساساته الفكرية.
لسان حاله يقول: [العقل مقفل].
التفكير الانطوائي الذاتي :
و السبب هو حالة الأنا الطبيعية التي هي أم المصائب في حياة الأنسان!
و قولته الشهيرة: [أنا فقط]
كلمة تكثر على لسان الشخص(آني أو أنا) حينما يظن أنه بنفسه قادر على استيعاب جميع الأفكار من حوله، و أنه قادر كذلك من خلال انطباعاته الخاصة على تفسير و إبداء الرأي في كلّ ما يمرّ عليه من أحداث و مواقف و آراء.
التفكير العدائي:
كخطأ و كخط أحمر يودي حتى بصاحبه ألأصابة بمرض الشّك المطلق و آلتّنفر من آلآخرين:
الشك قادر على أن يفتك بعقل صاحبه و حتى بمن يتعلق به، كالسحر.. فيصيبه بعطب لا ينتهي أثره إلا بآلموت، و يصبح الشك سيد المواقف و الأحداث.. و يغفل صاحب القول الشهير: أنا مُتردد؛ أن أول من يصيبه العطب فيقعده عن الفعل هو صاحب هذا النوع من التفكير قبل أن يمارسه كنمط في تحليل المواقف أو مناقشة الآخرين.
و بسبب شيوع الأرهاب في الأرض بكل أنواعه و هضم الحقوق و فقدان العدالة يثور المواطن على آلآخرين و يعلن الأرهاب عليهم, و ربما على نفسه كتحصيل حاصل.
كما أشار (بن نبي) في كتابه الأشهر (مشكلة الأفكار في العالم الأسلامي) إلى نقاط هامة يجب التوقف عندها و هي:
١- العوالم الثلاثة:
تتعايش طوال حياة الإنسان ثلاثة عوالم جنبا الي جنب مع وجوده هي:الأشياء
والأشخاص
والأفكار.
و قد يتفوق أحدهما علي الآخرين تبعا للفرد و لنموذج المجتمع الذي يعيش فيه.
يقصد بعالم الأفكار: مجموعة المعتقدات و المسلمات و التصورات و المبادئ و النماذج، التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما، و يدخل في هذا العالم أيضًا كل أنماط التفكير و القيم و المشاعر و الأحاسيس.
أما عالم الأشخاص: فيقصد به مجموعة العلاقات و النظم و الاتصالات التي تنظم حياة الأشخاص الذين يكونون هذا المجتمع فيما بينهم.
أمّا عالم الأشياء: [فهو كلّ ما ينتجه هذا المجتمع من مبانٍ و شوارع و زراعة و صناعة، و غير ذلك من المنتجات و الخدمات الملموسة](٢).
عندما يطغي عالم الأشياء؛ تتحول كلّ قيم المجتمع من القيم الكيفية إلي كمية, يواجه العالم الإسلامي مشكلة طغيان الأشياء علي الأفكار, يترتب علي ذلك نتائج تأخذ أحيانا أشكالًا تدعو للسخرية حينما يحل الشئ محل الفكرة بطريقة ساذجة لينشئ حلولًا مزيفة لمشكلات حيوية.
بينما يترتب علي طغيان الأشخاص نتائج ضارة عندما يتجسد المثل الأعلي في شخص ما, فسائر أخطاء الشخص ينعكس ضررها علي المجتمع الذي جسد في شخصه المثل الأعلي, لذا فإن أساتذة الصراع الفكري يعرفون أنّ التعامل مع الوثن (الشخص) أسهل من التعامل مع الفكرة!
يعرفون أن استغلال النفوذ أسهل مع الأشخاص منه مع الفكرة!
و المهم بالنسبة لهم هو أن لا يدع الاطراد الثوري يتمحور حول فكرة.
المرحلة الحالية للمجتمع الإسلامي تشهد تداخلا بين طغيان الأشياء(ألتكنولوجيا و آلعلاقات) و طغيان الأشخاص علي الأفكار(مجمل الأفكار الفلسفية).
و يخلص (مالك) إلي لب مشكلة المجتمع الإسلامي و هي:
[أن المسألة ليست مسألة وسائل و لكنها مسألة مناهج و أفكار].
٢- مراحل الحضارة:
يري (مالك) أنّ المجتمعات في دورتها الحضارية تكون في واحدة من ثلاثة مراحل:
• مرحلة ما قبل التحضر.
• مرحلة التحضر و الدورة الحضارية.
• مرحلة ما بعد التحضر.
كل حضارة تمثل في الواقع من انطلاقها شرارة الفكرة الدينية في المجتمع الذي يكون “خام” حتى تبعث فيه الروح التي تنشطه. فالحضارة الغربية (وهي الحضارة المسيحية) بنيت على أساس ما قام به المسيح (ع) في بيت لحم في فلسطين.
عند تطبيق الدورة الحضارية علي الحضارة الإسلامية يتبين أن المجتمع الإسلامي مر علي هذه المراحل الثلاثة وهو يعيش الآن بعد دولة الموحدين مرحلة ما بعد الحضارة كما يظهر في الشكل التالي:
مرحلة ما قبل الحضارة(مرحلة الجاهلية) --- دورة الحضارة الأسلامية(دورة الحضارة) --- مرحلة ما بعد دولة الموحدين(الحضارة الحديثة) -ـ
يجب التمييز بين مجتمع بدائي بكر يعيش مرحلة ما قبل الحضارة مذخورًا بطاقته الكاملة للانخراط فيها عندما تتوفر له شروطها، وبين مجتمع ما بعد الحضارة الذي كان قد حمل أعباءها، ثم خرج منها خائر القوى، محملاً بكل الرواسب والشوائب والمعوقات التي تصحب سقوط الحضارات وأفولها، وهي حال الأمة العربية الإسلامية اليوم.
يخلص مالك إلي نفس النتيجة السابقة لكن بطريق آخر بأن: مجتمع ما قبل التحضر وما بعد التحضر لا يفتقر للوسائل (الأشياء) إنما يفتقر للأفكار.
يتجلي بصفة خاصة بطريقة استخدامة للوسائل المتوفرة لديه: بقدر متفاوت في الفاعلية: وفي عجزه عن إيجاد غيرها.
فهناك فقر حقيقي في الأفكار تظهر في المجال السياسي و الاقتصادي تتجلى في العالم الإسلامي و في العراق بشكل خاص في الوقت الحاضر.
فإذا كانت معرفة المشكلة هي أول طريق العلاج, فأننا ننهي المقال بقول مالك بن نبي:
[لا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته ما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها].
و آلمسألة التي لا بدّ من الأشارة إليها هي أنّ (بن نبي) لم يشهد نجاح تجربة الدّولة الأسلاميّة المعاصرة عام ١٩٧٩م لكونه توفى عام ١٩٧٣م, لذلك توقف بفكره عند دولة الموحدين و أعتبر الزمن الذي بعدها زمن الحضارة و ما بعدها بشكل عام!
و آلحقيقة إن مفاهيم الثورة الأسلامية المعاصرة هي المرحلة الأخيرة في سير التطور الفكري الأنساني و الحضارة الأنسانية كمقدمة صالحة و عصريّة للتمهيد إلى ظهور المصلح الكبير لتأسيس الدولة الأسلاميّة العالميّة العادلة(٣)!
عزيزالخزرجي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(١) يمكنكم الأشتراك في المنتدى الفكري عبر الرابط أدناه ليصلكم كلّ جديد حول قضايا الفكر و الأخلاق و العرفان و الولاية التي هي أهم قضية في الفكر الأنسانيّ القويم؛
https://www.facebook.com/AlmontadaAlfikry
(٢) راجع: [من الصحوة إلى اليقظة، د/ جاسم سلطان، ص(١٢٣)].
(٣) راجع: [مستقبلنا بين الدين و الديمقراطية] للكاتب, عبر الأنترنيت.