"تعيش الامم الحية على ما تراكمه من مكاسب فتصبح لها مخزونات محسوسة وفكرية وقيمية وعلمية وخبرات واداب وسمعة وصحة وعمارة وانماط علاقات داخلية وخارجية وانظمة عيش وفي بناها الارتكازية، فتنتج وتتطور وتفتح افاقاً تتوسع ليس بالمعايير المادية فقط بل بالمعايير الروحية اساساً.. وعندما تتعرض الامم لانظمة عبثية وحروب داخلية وخارجية، فحالما تتوقف العوارض، فستتحرك مخزوناتها للنهوض وتعويض ما فات.. فمنذ انقلاب الميزان عندنا في القرن (١٣-١٤م) تراجعت بالتدريج الاصول التي نملكها، وفقدنا الحس الحقيقي والشروط اللازمة لمتطلبات الحضارة والتاريخ. فعندما بدأ الولاة يوصون عمالهم "ابقوا لهم لحوماً تنمو عليها شحوماً" فانهم كانوا يفكرون بالتراكم الذي بفناء عوامله سيذهب اللحم والعظم وعملية النمو والبقاء. فبدأ الانحدار التاريخي في انظمة الري الارقى في العالم والتراجع في الارض وفي الضرع والنسل وحرفها ومهنها.. لذلك عندما يتكلم "ابن خلدون" عن العمران يؤكد على فرعيه "الحضري والبدوي" كدليل لترابط مفهوم التنمية والحفاظ على اسسها. فتراجعت اسسنا التربوية وعمارتنا وانماط عيشنا ودوافعنا الحياتية وضخ قيم التجديد عبر الاجيال.. وبدأ التراجع التاريخي للتراكم.. وبدأت عملية تآكل الاصول والاسس. تضاعف سكان العراق اربعة مرات خلال نصف القرن الماضي.. لكن سكان العراق بمقياس القرون قد تراجع عند تأسيس العراق المعاصرعما كان في الفترة العباسية. فقضى كثيرون في جيوش الجوع والحرب.. تجندهم الدول الاجنبية او حروب الطوائف وامراء الارض وصولاً لصدام الذي فاق الجميع.. فان بقي فائض فتضمه مدن الصفيح ومجمعات التهجير في طول البلاد وعرضها.. ليزداد جيش المعدمين الفقراء العاطلين. فازداد حملة الشهادات وعدد المدارس والمستشفيات والاطباء ومن يحمل السلاح.. لكن معدلات الامية والجهل والجريمة الاجتماعية والسياسية قد ارتفعت ايضاً.. وتراجعت اعداد المختبرات والاكتشافات والاختراعات والعلماء والفنانين والادباء وحملة القلم وصناع المهنة ورجال الاعمال والتجارة الاكفاء، او صاروا ينتجون لامم اخرى. وانخفضت معدلات الحياة للانسان والارض والماء والاعمال النافعة والصالحة. وازداد الموظفون لتنقص خدمات الدولة للمواطنين وخدمات المجتمع لنفسه.. وتصاعدت موارد النفط الهائلة على حساب غيرها.. لتصرف لتطوير آلة الحرب والدمار والفساد والعبث.. بدل ان تصرف لقلب المعادلة وكسر الحلقة لنعود لمراكمة المكاسب والمنجزات التي ترفع بعضها بعضاً، والتي تحمينا في يومنا وغدنا. وهذه تبدأ بقانون الهي ابدي مفاده "ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم"."