يأتي وصول قوات من الحشد الشعبي من جنوب العراق الى قاعدة "عين الأسد" للمشاركة في تحرير هيت ومناطق أخرى في الأنبار ليعطي رسالة قوية تؤكد تلاحم الشعب بسنته وشيعته في مواجهة تنظيم "داعش" الإرهابي، ويمثل نقلة نوعية في سفر الانتصارات المتلاحقة للقوات الأمنية والحشد الشعبي على تنظيم "داعش" في ديالى وصلاح الدين والأنبار وبابل، فضلاً عن انتصارات قوات "البيشمركَه" في سهل نينوى. ان الانتصارات المتحققة والمتوقعة قريباً في الأنبار وصلاح الدين أجهضت التهويل في رسم صورة تنظيم "داعش"، وفندت تقديم التنظيم كقوة خارقة غير قابلة للردع أو أن ردعها يتطلب سنوات طويلة وربما لا يتحقق إلا بتدخل قوات أجنبية على الأرض، وجاءت هذه التطورات لتقدم رسالة قوية للمجتمع الدولي بأن العراق بقواته وشعبه قادر على دحر تنظيم "داعش" دون الحاجة الى تدخل بري خارجي.
لا أعول كثيراً على نظرية المؤامرة وإن كنت لا أنفيها، فالتآمر هو سلوك فطري نابع من الطبيعة البشرية، وبالتأكيد تكمن هناك مصلحة خلف أية مؤامرة، وعندما يعرف طرف ما بأن الطرق مغلقة أو غير معبدة للوصول الى غايته فانه قد يلجأ الى أسلوب المؤامرة للتعجيل بوصوله الى غايته المنشودة، وفي هذا السياق أطلعنا على تسريبات وتحليلات كثيرة تتحدث عن قصدية الولايات المتحدة كإدارة سياسية أو أجهزة مخابراتية في التهويل من قوة تنظيم "داعش" من جهة، والتشكيك بقدرة العراقيين على هزيمة "داعش" من جهة أخرى، وقبل ذلك ظهرت تقارير تتحدث عن دور مخابراتي أميركي في تصنيع تنظيم "داعش" في سوريا فضلاً عن دور أخطر في استدراج التنظيم الى العراق، وبالطبع هناك خلفيات ومبررات لكل هذه التسريبات والتحليلات، لكن الرد عليها يأتي من خلال قدرة العراقيين على الدفاع عن أنفسهم وعن وطنهم، ولم يتأخر ذلك كثيراً، فبعد أن انتهت مرحلة الصدمة، بدأت مرحلة الانتصارات العراقية على التنظيم الإرهابي، وجاءت ردود الأفعال الأولى من الغرب حيث عَبَّر خبراء غربيون عن دهشتهم من تقدم الجيش العراقي، وقوات الحشد الشعبي، وتحقيقها انتصارات على "داعش" في جرف النصر دون أن يكون هناك أي غطاء جوي من قوات التحالف الغربي لمساندة القوات العراقية، لكننا لا نزال نسمع بين الفينة والأخرى تهويلا إعلاميا اميركيا وغربيا حول القدرة العسكرية لـ"داعش".
إن تطهير جرف النصر من "داعش" بإمكانات عراقية، يُثبت القدرات العسكرية للجيش العراقي والحشد الشعبي في تحقيق انتصارات ملفتة للنظر، وسحق "داعش"، كما يكشف عدم دقة تصريحات التحالف الغربي حول قدرات "داعش" العسكرية والقتالية، فقد تم فك الحصار عن آمرلي سابقاً، و"داعش" لم تخض أية معركة في مواجهة مباشرة مع قوات الجيش والحشد الشعبي بل كانت تعتمد على التهويل الإعلامي، وكسر معنويات الجنود، مع تخاذل آمري الوحدات، وكان ذلك جلياً في الموصل وغيرها. أصحاب نظرية المؤامرة يصرون أن أميركا لا تريد لـ"داعش" أن تخسر الأرض والمعركة ولو مؤقتاً، لتستطيع لاحقا الحصول على إقناع المجتمع الدولي بضرورة التدخل العسكري البري المباشر الذي لا يزال مرفوضاً من الحكومة العراقية، ليصبح ذلك التدخل قرارا دوليا وأمميا مفروضا على الحكومة العراقية، بذريعة عدم قدرها على القضاء على "داعش".لقد تمكنت أميركا وحلفاؤها، في حرب الخليج الثانية من تحرير الكويت بأقل من شهر من جيش صدام الذي كان يتكون من أكثر من نصف مليون جندي، واليوم يصرح المسؤولون الأميركيون بأن المعركة طويلة الأجل مع "داعش"، التي يتراوح عدد مقاتليها، - حسب أكثر التقديرات - بنحو "ثلاثين الف" مقاتل، بينما التحالف الدولي بقيادة أميركا، يضم أكثر من أربعين دولة.الحكومة الأميركية تدفع منذ فترة باتجاه التعجيل بتشكيل (الحرس الوطني) من بقايا فلول الجيش السابق والبعثيين وما يسمى بثوار العشائر ومن سينشق عن "داعش" في ما بعد، وتسليحه وتدريبه، وتأتي هذه الخطوة في إطار مقدمات تقسيم العراق على أسس طائفية، في الوقت الذي تجري فيه المماطلة والتسويف في تجهيز القوات العراقية بما يلزم من الأسلحة بالرغم من وجود اتفاقية أمنية بين الحكومة العراقية والإدارة الأميركية، فضلاً عن التحفظات الأميركية على وجود قوات الحشد الشعبي وتصنيفها طائفياً تمهيداً لتصفيتها.
لقد أثبتت قوات الحشد الشعبي قدرتها القتالية الكبيرة في الحرب ضد "داعش" ونجحت في هزيمتها بمعارك عديدة، الأمر الذي أسقط وهم (القوة الخارقة) لتنظيم "داعش"، وهذا النجاح يدعو الى تعميم هذه التجربة في محافظات الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى، ولا يوجد مبرر لاستحداث ما يسمى (الحرس الوطني)، طالما أن (الحشد الشعبي) أصبح قوة ضاربة على الأرض وليس هناك ما يمنع من تعميم هذه التجربة على المحافظات الأخرى، ثم ان (الحشد الشعبي) لن يحمل هوية طائفية إذا ما جرى تشكيله في بقية محافظات العراق، وما يحدث هذه الأيام في الأنبار من مشاركة قوات الحشد الشعبي (شيعية وسنية) في تحرير منطقة هيت ومناطق الأنبار الأخرى، يمثل مؤشراً إيجابياً باتجاه سقوط الدعوة
الى تشكيل جيوش طائفية وعرقية تحت مسمى (الحرس الوطني)، وفي احاديث تلفزيونية أشاد العديد من شيوخ العشائر في هيت والأنبار بهذه المشاركة الوطنية الرائدة، فأحد شيوخ عشيرة البو نمر التي تعرضت لمذبحة جماعية على أيدي عناصر "داعش"، قال (الشيعي يقاتل في الخندق أمامي ويستشهد دفاعاً عن أرضي وعرضي، بالوقت الذي خذلنا رجال من عشائرنا وأهلنا)، من هنا لا بد من صقل وتطوير تجربة جهادية تطوعية ولدت بعد فتوى المرجعية الدينية في النجف والتي دعت كل العراقيين الى الجهاد الكفائي دفاعاً عن الوطن والكرامة، مع التأكيد على مرحلية وجود الحشد الشعبي الذي سوف تنتفي الحاجة له بنهاية العدو، فهو ليس مؤسسة حكومية دائمة، كما يجري الترويج لما يسمى (الحرس الوطني) الذي يُراد له أن يكون جيوشاً بديلة للجيش العراقي الاتحادي.نؤكد هنا على أهمية إعادة بناء الجيش العراقي على أسس مهنية صحيحة وتعميم ودعم الحشد الشعبي كقوات رديفة للجيش على أن تنتهي مهمتها بعد تحرير الأرض العراقية المغتصبة وتحقيق النصر على "داعش"، لتتولى بعد ذلك قوات الشرطة والأمن المحلية ملف الأمن في المحافظات العراقية بعد خروج الجيش من المدن.