-٢-
واذا كنّا اليوم نشكو من إلقاء القبض على بعض الأبرياء وايداعهم الزنزانات ، وتعريضهم لألوان من العذاب، فانّ ذلك أمر ليس بالجديد يقينا ...
ان هذا قد حصل قبل قرون عديدة في العراق ، أيام المعتمد العباسي
(ت ٢٧٩ هجرية) .
-٣-
جاء في سيرته :
أنه كان نائما فأفاق وقال :
أحضروا لي من السجن رَجلاً يُعرف بمنصور الجمّال .
فأُحضِر ، فقال له :
" منذ كم أنت محبوس ؟
فقال :
منذ ثلاث سنين
قال :
فأَصْدقني عن خَبَرِكَ
قال :
أنا رجل من أهل الموصل ،
كان لي جَمَلٌ أحملُ عليه ،
وأعودُ بأجرته على عيلتي ،
فضاق المكسب بالموصل عليّ فقلتُ :
أخرجُ الى (سرَّ من رأى ) ... فخرجتُ ،
فلما قربتُ منها اذا جماعةٌ من الجند ، قد ظفروا بقوم يقطعون الطريق ،
قد كتب صاحبُ البريد بخبرهم ،
وكانوا عشرة ،
فأعطاهم واحدٌ من العشرة مالاً على أنْ يُطلقوه ،
فأطلقوه ،
وأخذوني مكانَه ،
وأخذوا جملي ،
فسألتهم بالله ، وعرَّفتُهم خَبَري ، فأبْوا ،
وحبسوني معهم ،
فمات بعضُهم ، وأطلق بعضُهم ، وبقيتُ وحدي "
وهكذا تلاعب الجنود فجعلوا البرئ مذنباً ، وأطلقوا المذنب ،
ولم يرحموا الفقير بل عمدوا الى مصادرة جَمَلِهِ ..!!
وبقي هذا الجمّال البرئ طيلة سنوات ثلاث، يعاني من الكمد والحسرة والبلاء ما يعاني ... بلا رحمة ولا شفقة ، ولا اكثراث بمعاناته ..!!
وكم لهذا الجمال - البرئ الذي أُخذ ظلماً - من نظير في مراكز الاعتقال الحالية ؟!
ان لهذه الحادثة بعينها نُسخاً كثيرة تجاوزت الالاف المؤلفة – للاسف الشديد –
-٤-
وحين قَصَّ (منصور الجمّال) على المعتمد العباسي قصته ، قال :
" احضروني خمسمائة دينار ،
فجاؤوا بها ، فقال :
ادفعوها اليه ،
فأخذها ،
وأجرى له ثلاثين ديناراً في كلّ شهر وقال :
اجعلوا اليه أمر جِمالنا "
إنَّ مجرد اظهار التأثر النفسي لا يكفي لانعاش هذا الرجل المظلوم ...،
فكان لابُدَّ ان يقترن التأثر بما يستطيع الرجل معه تطبيع أوضاعه
وهذا ما حصل بالفعل .
ثم انّ (المعتمد) لم يُرد أنْ يبقى هذا الجمّال المظلوم مثقلاً بأعباء الحياة، فأصدر الأمر بتعيين راتب شهري له .
وزاد على ذلك بان جعله المسؤول عن جِمال السلطان ، وفي ذلك ما يرفع من مكانته الاجتماعية ، بَعْدَ معالجتِهِ للجانب الاقتصادي ...
وهكذا يجب ان تكون رعاية الدولة لمواطنيها المظلومين ...
-٥-
والسؤال الآن :
كيف علِمَ (المعتمد) بقصة (منصور الجمّال) السجين ،
ومن أين أتيحت له فرص التعرف على قضيته ؟!
قيل :
انه قال :
" رأيتُ ... النبيَّ (ص) في النوم ،
فقال :
يا احمد
وَجِّه الساعة الى الحبس فأخرجْ منصوراً الجمّال ، فانه مظلوم وأحسن اليه ، ففعلت ..!!
نثر الدر /للآبي /ج٣/ص٩٥