اما الأخر فهو الذي يكتب التأريخ بقيمه ومبادئه وأفعاله، ليكون هو تأريخاً بحد ذاته، مكتمل العنوان والموضوع، والسيستاني واحدٌ من أهم رجالات هذا النوع من العظماء، الذين كتبوا الصفحات الأسمى في تأريخ البشرية، بالنظر لحجم الإنجازات التي جاءوا بها في إنعطافة مظلمة للتأريخ. تصدى الإمام السيستاني للمرجعية في وقت ملئ بقيح البعث والعبث، خصوصاً إن صدمة أتباعه الشيعة كانت كبيرة بسبب ما آلت إليه نتائج الإنتفاضة الشعبانية، وتوجه النظام القمعي أنذاك بأستهداف الشيعة والعلماء وما رافقها من صمت دولي، لذلك كان المرجع محاطاً بمجتمع يائس ومهزوم وفاقد الأمل وقليل الحيلة. التقية هي الحل وأعادة الثقة هي الغاية. عمل سيد علي عملاً دؤوباً لإعادة الثقة في نفوس المجتمع الشيعي، وكان خيار التقية وقتها هو الطريق الأسلم لنيل تلك الغاية، تهدئة الأجواء ومهادنة السلطة الوحشية جاءت بنتائجها في التحضير لعالم ما بعد صدام حسين، فوسع الدروس الحوزية ونشر المبلغين والمعتمدين ووزع الوكلاء، ليستحضر الروح المعنوية لدى أتباعه. وهذا ما أثمرت نتائجه في حرب الخليج الأخيرة، والتي إنتهت بنهاية حكم البعث للعراق وبداية الأحتلال الأمريكي له، وهنا أيضاً مفصل تأريخي أخر كان على السيستاني مواجهته للحفاظ على العراق، وكانت أثار الحرب مشوهه للسلم المجتمعي العراقي وبنيته المادية، فقد نشبت الحرب الطائفية على ركام البنى التحتية المدمرة وشرعنة الأحتلال الأمريكي، كل تلك الأحداث وغيرها كثير ممن يشيب عندها الرضيع، واجهها المرجع بحزم وإرادة صلبة وحولها إلى إنتصارات صرعت الإرادة الغربية، فأسس العملية السياسية كتجربة ديمقراطية جديدة على المنطقة، وأستطاع العبور بالعراق من مستنقع الطائفية سالماً مسلماً. فتوى الجهاد وجهاد الفتوى.. لم تمضي الأيام سريعاً لتتيح لكاتب التأريخ وقتاً للعناية بالتجربة السياسية حديثة النشأة، فقد سقطت الموصل ومعها الأنبار وديالى وتكريت وأجزاء كبيرة من محافظات أخرى، وأقتلع الكفر الداعشي جزءاً من قلب العراق الذي لم يجد الفرصة بعد.. للملمة جراحه، ليجد الأمام نفسه بمواجهة العديد من الفتاوى المضلة وأتباعها من البرابرة اللا دينيين، هناك يذبحون، ينتهكون، يستحلون كل محرم، وهنا يتقدمون أتجاه بغداد العاصمة ومقدسات المسلمين، فكانت أنامل الذهب التي كتبت فتوى الجهاد الكفائي هي المنفذ والمخلّص، حتى جاءهم جند الحق من بين أيديهم وأرجلهم، يسجلون ملاحم الإنتصار. مع كل ذلك لم يسلم سماحته من تهجم المتربصين للإسلام والعراق، شوهت الحقائق وسرقت الإنجازات، بل وتعدوا ذلك بالشتم واللعن والقذف، وهذا ما كان متوقعاً، فطريق الحق يشكو دائماً مِن قلّة سالكيه، والشجرة المثمرة باتت عرضة لضربات الحجر. بعد كل ما ذكر.. نجد إننا نعيش في زمان مميز كتب تأريخه المرجع السيستاني، إنه زمن سيد علي و وقفاته وجهاده وإصلاحه وفتواه، زمنٌ يجبرنا على الفخر.. إننا عاصرنا السيستاني.