في كل أزمة سياسية تمر بالبلد يأتي الحديث عن الحل ، والحل يضم دائما عددا من الخطوات المتسلسلة تعلنها المرجعية العليا او يعلنها المجلس الاعلى عادة ، واعتدنا ان نسمع ان الحل تتصدره (التهدئة) ، وبعد التهدئة يبدأ الحوار ، وبعد الحوار تفكيك المشكلة ، وبعد التفكيك عرض معالجة لكل جزء من المشكلة على حدة ، والبحث هنا في (التهدئة) ولكن كثيرا من الناس يتصورون خطأ ان كلمة (تهدئة) التي تريدها المرجعية او المجلس الأعلى مجرد كلمة للاستهلاك الاعلامي ، بينما (التهدئة) في حقيقتها برنامج علمي متكامل له مقدمات وذروة وخواتيم وخلاصة ، وبدايتها تطوير قناعات الطرف المخالف من كونها تصورات مثالية تسبب لاصحابها الانفعال والتشدد الى حقائق تظهر بحجمها الحقيقي وتصبح قابلة للحل ، فليست التهدئة عبارات وكلمات لتطييب الخواطر ، بل هي نقاش يجعل كل طرف يعيد اكتشاف الطرف الآخر ومشكلته بحجمها الحقيقي ، بتقديم بحث تحليلي تفصيلي فاذا كان الشيطان يكمن في التعميم فيمكن ان يهرب من التفاصيل ، جميع المشاكل السياسية فيها استعداد كامن لقبول التهدئة ، فالمشكلة في بداية انفجارها يشترك فيها : ١- طرف متشدد لا يقبل النقاش ويعتبر نفسه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة كلها ، ويرى تعريفه للمشكلة هو التعريف الوحيد وتعريفه للحل هو التعريف الوحيد ، ومشكلة المتشدد مشكلة مزاج وبناء نفسي وقيمي ، ويلعب الجهل والحسابات المسبقة دورها في صناعة المتشددين وبلورة اسلوبهم في التفكير واتخاذ القرار وتقييمهم للعالم الموضوعي من حولهم . ٢- طرف معتدل هو اكثر استعدادا لرؤية المشكلة بموضوعية ورؤية العناصر الايجابية والسلبية ، ورؤية الذات والشريك ورؤية الآخر المخالف بموضوعية ، ٣- تتولى التهدئة عادة التحدث مع المتشدد والحضور معه بقوة مع التلويح بعناصر الردع وعناصر الصداقة بالتساوي ، واقناعه بأن المخالف ليس نقيضا وجوديا يجب استئصاله او الغاؤه ، بل هو نقيض مصالح ، وما دامت هناك مصالح متناقضة يمكن ايضا العثور على مصالح متوافقة بين الطرفين ، ثم اقناع المتشدد بأن مصالحه معترف بها ومحترمة مع مطالبته بأن يجري الحديث في الأمور المشتركة الممكنة كما يجري الحديث في الخلافات ، واعطاء فرصة لحديث المشتركات بحجم فرصة الحديث عن الخلافات ، وتأتي خطوة أخرى في تهدئة الخصم وهي تقوية جناحه المعتدل والسماح له بالحديث وحمايته من غضب شريكه المتشدد ، فأما ان يكون يتحقق للمعتدل صوت مؤثر وأما ان يحدث انشقاق بين الشريكين وكلا النتيجتين تخدم التهدئة ، فتنتقل مطالب المخالف من الرفض القاطع الى الرفض النسبي ، ينتقل من العناد الى قبول النقاش ، ينتقل من اليأس الى التفاؤل بامكانية الحل ، وبهذا تتحقق التهدئة ... فهي اذن ليست عبارة للاستهلاك الاعلامي بل خطوات تجعل الخصم المتشدد اكثر مرونة وهذه الخطوات تحتاج الى نوعين من العمل : عمل تفاوضي خلف الكواليس ، وحملة رأي عام تحشد شارع الخصم لقبول التهدئة ، فاذا تحققت التهدئة تبدأ الخطوة الثانية وهي الحوار .