يعني القديم سيطرة الحزب والفرد، والفساد والرشاوى والمقاولات والصفقات الفاشلة..
وصرف الاموال في العسكرة والحروب والشؤون العبثية والتفاخرية والخصومات الداخلية ومع دول الجوار.. ويعني الطائفية والعنصرية.. وهيمنة الدولة النفطية الريعية على كامل الاقتصاد والاجتماع ومؤسساتهما، وعلى التجارتين الداخلية والخارجية.. وتراجع القطاعات الحقيقية والاستثمارات الخاصة والعامة الوطنية والاجنبية.. وجعل العملة والتحويل ضرائب اضافية يدفع الشعب اعباءها.. ليتربح الحاكم من دينارها المتهاوي الذي لا يساوي قيمة ورقه.. وحيث القضاء قضاء السلطة، والاعلام اعلامها.. الخ. اما الجديد فيجب ان يكون النقيض تماماً.. والذي يلد من انتخابات قد يكون فيها نواقص.. ودستور قد يعترض عليه البعض عن حق.. وقد يجد اخرون فيه ثغرات تتطلب التعديل.. لكنه هو ما استفتي الشعب عليه.. وتمت مناقشة فلسفته ومواده مفصلاً وعلناً طوال عامي ٢٠٠٤ و٢٠٠٥.. واستند في مبادئه على تجاذبات وكتابات ومناقشات طويلة ومعقدة بين المثقفين والقوى السياسية الوطنية ومؤتمراتها وملتقياتها المختلفة.
فالمسألة ليست سوء نوايا لاشخاص واحزاب.. فالكثير من انصار النظام القديم يصطفون اليوم مع الوضع الجديد بنفس مبانيهم القديمة، او بنبذها.. بالمقابل يقف معارضون سابقون في داخل الدولة والاحزاب –بلامبالاة غريبة- لبعث افكار ومؤسسات وقوانين وممارسات النظام الفائت.. فالقديم له قوة الواقع، والرجل البالغ الذي يحسن صناعة الموت والخوف والتخريب.. اما الجديد فهو الوليد الضعيف الذي يمثل الطموحات.. ولن ينهض بدون وعي الشعب ورعاية ودعم المخلصين الذين يمسكون بدفة الامور.. واستحضار التضحيات الغالية التي بذلت لبناء مستقبل افضل.
فمن لا يمتلك رؤية صادقة ومضادة للماضي المؤلم، فسيجد نفسه يستعير افكار القديم وممارساته ولو باسماء جديدة. فالوطنية والديمقراطية والسيادة والاعمار والوحدة ليست كلمات للخداع.. بل هي ممارسات ونتائج ملموسة مادية ومعنوية يصعب تكذيب منافعها او اضرارها او مصاديقها.
لقد انتهى البعث في العراق وسوريا والمنطقة تاريخياً وعملياً.. كما انتهت وستنتهي احزاب قومية ويسارية واسلاموية وليبرالية.. فالاحزاب والمفاهيم ليست كيانات ومباني خالدة.. بل هي عجينة -سليمة او فاسدة- لواقع مضى، او لواقع حاضر وقادم.. فالخيارات الناجحة والفاشلة هي نتاج لاعمالنا الصالحة او الطالحة.. ولن يصح في النهاية الا الصحيح.
استجواب المحافظ حق.. واقالته والقاء القبض عليه خطأ
يقوم ديوان الرقابة بواجباته عندما يقدم تقريره حول السلوك المالي للمؤسسات.. فتكون الملاحظات اما صحيحة فتستوجب المحاسبة.. او لنقص المستندات، وعلى المؤسسات توفيرها.. او لوجود اسئلة ونقاط غامضة، وعلى المؤسسات توضيح موقفها. وقبال تقرير الديوان حول البنك لم نسمع تقرير الاخير..
ولم يعرض على مجلس الوزراء، او مجلس النواب، او "النزاهة".. واتخذت الاجراءات والقرارات وكأن تقرير ديوان الرقابة هو لائحة ادانة وليس تقرير مراقبة، قابل للاخذ والرد.
تسرعت الحكومة بسحب يد الشبيبي او اقالته. فالمادة (١٤/٢) من قانون البنك لا تمنح مجلس الوزراء الحق، وتنص.. "لا تقوم سلطة التعيين (رئيس الوزراء) باقالة المحافظ.. من مهام منصبه الا في الحالات الاتية فقط".. وهي صدور حكم من محكمة ضده.. او توليه منصباً او وظيفة اخرى.. او مصاباً بمرض نفسي او جسماني يجعله غير قادر على اداء مهامه.. او تغيب لمدة تزيد عن ٣ اشهر عن جلسات مجلس الادارة (البنك) دون استحصال موافقة المجلس.. او قيام السلطة المختصة (مجلس النواب) بسحب اهليته او ايقافه من ممارسة مهنته. فلرئيس الوزراء الطلب.. لكن مجلس النواب هو المسؤول عن الاعفاء بالمادة الدستورية ٦١/هـ.. "لمجلس النواب حق استجواب مسؤولي الهيئات المستقلة وفقاً للاجراءات المتعلقة بالوزراء وله اعفاؤهم بالاغلبية المطلقة".. وهذا يتأكد اكثر مع قانون التعديل الاول لمجلس النواب عام ٢٠٠٧ على قانون البنك المركزي الذي اعتبر المحافظ بدرجة وزير وحدد مدة تعينه لخمس سنوات قابلة للتجديد.
لم يستمع مجلس النواب للشبيبي وملاحظات البنك قبل اتخاذ اي اجراء.. بل تسرع حتى في تطبيق ما طالبت به لجنة الامر النيابي ٦٢٦ في ١/٨/٢٠١٢ التي اوصت في ٣/١٠/٢٠١٢ "احالة الملف بكامله الى هيئة النزاهة.. بعد ورود اجابة البنك عليها".. نكرر بعد ورود اجابة البنك.
وانتهك قرار القاء القبض نص المادة ٢٣/١ من قانون البنك.. "لا يتعرض اي عضو من اعضاء المجلس او اي موظف او وكيل للمصرف المركزي العراقي للمسائلة القانونية او يعتبر مسئول مسئولية شخصية عن اية اضرار وقعت بسبب اي اهمال او اجراء صدر منه اثناء تأديته لمهامه او في سبيل تأديته للمهام الرسمية التي تقع في نطاق وظيفته والتزاماته المحددة له بمقتضى هذا القانون"
الشباب.. همومهم ومطالبهم
في جلسات عامة جرت خلال السنوات القليلة الماضية مع مجاميع من الشباب كانت تطرح اسئلة مثل.. ما هي طموحاتهم؟ وهل يرون مستقبلاً افضل من السابق؟ وهل يشعرون باطمئنان اكثر؟ وما هي اهتماماتهم السياسية والدينية؟ وهل المخدرات منتشرة في صفوفهم؟
وكذلك الكحول والعلاقات بين الجنسين؟ وهل الزواج مشكلة بالنسبة لديهم؟ وطبيعة علاقاتهم باسرهم؟ وطموحاتهم المهنية والدراسية والجامعية والمستقبلية؟ ووسائل الترفيه واللهو وقضاء الوقت؟
الشابات عموماً اكثر حماساً وجدية من الشبان في شؤون الدراسة.. ولديهن احساس بالمظلومية وخوف من المستقبل والعنوسة.. فالشابة تنتظر نصيباً قد لا يأتيها، بينما الشاب يمتلك حرية المبادرة والاختيار.
احساس الشبان بالمستقبل افضل من السابق.. الذي كان يعني الجندية والهرب من الدراسة، وبالتالي فرصاً اقل في الحياة.. وتفكر نسبة غير قليلة بالسفر للخارج او بمشروع صغير. يقابل ذلك شعور اقل بالاطمئنان.. فمسارات الحياة كانت رتيبة، بينما مسارات اليوم تقلقهم وتضعهم امام المجهول. وعلاقة الشبان بعوائلهم ليست ضعيفة لكنها اقل من الشابات.. والاسباب ان العائلة تبقى ملجأ الشابات خلاف الشبان الذين يتمتعون بحريات اوسع.
التدخين منتشر، خصوصاً عند الابتعاد عن الاهل.. ويدخن كثيرون علناً.. والشابات سراً.. وللكحول واقع بين الشبان يجب ان لا يضخم.. وينعدم تقريباً بين الشابات.. وهناك انتشار معين للحشيشة والحبوب بين الشباب خصوصاً في مناطق معينة.. اما العلاقات الجنسية فلا يمكن التعميم، وجعلها القاعدة، لكنها ليست الاستثناء ايضاً. والتوظف وفرص العمل هدف اساس للجميع.. فالدراسة تعني الشهادة.. وهدفها التوظيف. والاهتمام قليل بالمستوى العلمي واوضاع الجامعات ومستوى الاساتذة والمختبرات.. ويشكون كلف دروس التقوية الاضافية خصوصاً لطلبة البكلوريا. واهتماماتهم السياسية اقل من جيل الخمسينات والستينات، لكن اهتماماتهم الدينية والمذهبية اكثر. لا يحبون السياسيين والاحزاب عموماً.. ويعطون وقتاً اقل لتطوير ثقافتهم العامة، والاطلاع على النتاجات الفكرية والادبية المحلية والعالمية.. ولا تمثل السينما والمسرح شيئاً بالنسبة لديهم عدا ما يعرض في التلفزيونات.. وينتشر الجوال والالعاب وتداول الافكار والمقالب السريعة والسطحية اكثر من الافكار المعمقة والجدية. ووسائل الترفيه هي الرياضة والاغاني والمسلسلات، ويشكون الضجر وقلة النوادي والفعاليات.
هذه ليست دراسة بمسوحات واحصاءات كاملة.. وهناك تخلف كبير في اعدادها. فان لم نتكلم عن حاضر الشباب ونتعرف عن اولوياته وهمومه ومشاكله، فسنقصر في حمايته وبناء مستقبله.
الاغلبية البرلمانية.. وشراكة المكونات
انتخابات ٢٠٠٥ كانت الوحيدة التي حققت اغلبية انتخابية بفوز الائتلاف العراقي بـ ١٤٠ مقعداً من مجموع ٢٧٥ مقعداً.
كان يمكن، اجرائياً، تشكيل حكومة اغلبية سياسية.. لكن ذلك اعتبر خطأ من الناحية السياسية. فكان سيصعب على العراق، الذي قسمته النعرات الدكتاتورية والطائفية والعنصرية، الوصول الى دستور لولا حكومة الشراكة الوطنية انذاك.. ولم تتحقق الاغلبية الانتخابية في ٢٠٠٦، وحتى لو تحققت فكان سيصعب تشكيل مثل هذه الحكومة ومرتكزها الاساس، مشروع المصالحة الوطنية وتضامن كافة القوى للوقوف بوجه الارهاب المتصاعد. وتقاسمت في ٢٠١٠ اربع قوائم اكثر من ٣٠٠ مقعداً من مقاعد المجلس البالغة ٣٢٥ مقعداً، وقامت حكومة، بموجب اتفاقات اربيل، تتعرض لضغوطات شديدة وتعاني من نواقص كثيرة.
مسألتان نعاني منهما والمطلوب معالجتهما.. الاولى ان تعطل اقلية برلمانية القرارات ومسيرة البلاد.. والثانية ان يفكر طرف واحد بالاسئثار واخضاع الاخرين مستغلاً جغرافيته او ديموغرافيته او موقعه الذي يسمح بالهيمنة العملية الكلية او الجزئية. مما يتطلب تطبيقات عاجلة ان اردنا انقاذ البلاد.. وهي استكمال البناءات اللامركزية والفيدرالية وهيئات التوازن ومجلس الاتحاد وقوانين المفوضية والانتخابات والهيئات المستقلة وغيرها.. ليتحقق الاستقرار الاكيد، ولتترسخ حقوق المواطنين والمكونات في سلوكيات الدولة وقدراتها وامكانياتها وفرصها.. لا تعبث بها موازين القوى السياسية والحكومية المتقلبة.. فان تحقق ذلك –وتجاوزنا التقصير والابتعاد المتزايد عن تحقيق هذه البناءات الضرورية- فستصبح موضوعة حكومة الوحدة او الشراكة او الاغلبية السياسية، موضوعة يحددها ظرف البلاد ونتائج الانتخابات التي تتغير من دورة لاخرى.
فالامر ممكن من الناحيتين الموضوعية والذاتية.. ولا تعطله سوى الارادات الفردية المتنازعة والحسابات الخاطئة، وليس متطلبات البلاد والمصالح السياسية الحقيقية للاطراف. وهو ممكن حتى في هذه الظروف من الحساسيات والمنازعات المتصادمة، ذلك ان كانت هناك ارادة صادقة للوصول لحلول لازمة البلاد، او للالتزام الجدي بالدستور. فما الذي يمنع اجتماع القوى الاساسية البرلمانية والحاكمة اليوم في "جبهة سياسية"، ببرنامج وطني محوره الدستور.. ولتكن بعدد ١٦ ممثلاً –بتخويل كامل- يشكلون "المجلس القيادي للجبهة".. يأخذ التحالف الوطني ٨.. و٤ للكردستاني، ومثلها للعراقية.. وتكون قرارات الجبهة بالاغلبية، اي ٩ اصوات، شريطة وجود نصف من كل طرف على الاقل مع القرار. وهكذا ستجد الاغلبية طريقها من جهة، وتطوق ممارسات التعطيل او الاستئثار من جهة اخرى.
فاز اوباما.. التعددية والدستور مصادر قوة وليس ضعف
المجتمع الامريكي من اكثر المجتمعات تعددية وعنصرية، ودستوره من اعقد الدساتير.. مع ذلك تقبل الاغلبية البيضاء مجيء رئيس من اصول افريقية وبطفولة اسلامية.. وتقبل الاغلبية المسيحية البروتستانتية ان ينافسه رئيس "مورموني" يقبل مذهبه بتعدد الزوجات..
ويقبل الجميع بالدستور بغرائبه وعجائبه,, وما قاد اليه في فترات سابقة من انقسامات وحروب.. فتصبح التعددية مصدر الرقي يتقدم القوة العسكرية والاقتصادية، كما ذكر اوباما في خطاب الفوز، ويصبح الدستور والمؤسساتية مصدر وحدة وقوة امريكا وليس انقسامها او تعطلها. ومسألتا التعددية والدستور من المسائل المثارة عندنا، فكيف نقارب ذلك؟
هاجر المستوطنون لامريكا بحثاً عن عمل او ربح.. فالمجتمع بني على الهجرات والعبودية التي لم تلغ الا بعد حروب قاسية وحركات تمرد وحقوق مدنية، رافقتها اعمال قتل وعنف اجتماعيين. فعلة وجود المجتمع الامريكي انه مجتمع فرص ومصالح تقصده الشعوب من اطراف المعمورة. فتعلم هضمها واستثمار اموالها وطاقاتها وعملها وخبراتها.. بالتعامل الواقعي "البرغماتي".. الذي يغلب المنفعة والقدرة.. ليحتوي بها المشاكل والاضرار. والعراق ليس بعيداً عن هذه الامكانية.. فهو بلد استقبل في تاريخه الهجرات والعلوم والقدرات التي استوطنته.. واستطاع عبر التاريخ ان يوحدها في بوتقته.. وان يجعل منها عناصر غنى وقوة.. ليصبح قلباً نابضاً لفضائه الاقليمي والعالمي.. والتعددية لم ولا تتحول لعامل تفرقة وانقسام.. الا بموجات التعصب العنصري والديني والطائفي.
اما معركة الدستور فهي معركة طويلة قاسية. فما يعطي القبول للدستور هو ليس النصوص المجردة. فالكتب السماوية ستبقى الواحاً محفوظة.. ما لم يحملها الرسل والائمة والمصلحون.. ويفسرونها بسننهم وعلومهم وتجاربهم.. ويجعلونها واجبات والتزامات وحقوق. كذلك الدساتير، فان المواطنين ورجالات الدولة والقوى السياسية معنيون بتحويل مبادئها الى قواعد عمل توحد وتنظم الحقوق والواجبات، بدل الاستهانة بها او الالتفاف عليها. والدستور العراقي ثبت المبادىء الاساسية والحقوق المدنية والسياسية والحريات، كما ثبت طبيعة نظامه وعلاقة السلطات ببعضها وصلاحيات كل منها.. وهذا مكسب يجب الاحتفاظ به وتطويره، لكي ننتقل من دولة المسؤول لدولة المواطن.. ونحترم الاقلية والمعارضة، كما نحترم الموالاة والاغلبية.. ونعظم دور المجتمع والشعب ونجعل الدولة والحكومة راعية وخادمة لهما.. ونمنع التفرد ونحمي القضاء المستقل ومبدأ التداول والانتخابات الحرة.. ونراكم سلوكيات واخلاقيات احترام الدستور والقوانين الصادرة بموجبه، كما راكمتها الامم الاخرى.