هل ستندلع الحرب فعلا بين الاكراد والحكومة، اي بعبارة اخرى هل من الممكن ان تتكرر مشاهد الصراع الدموي الذي حفلت به المنطقة عقودا من الزمن؟.. وهل هناك مايبرر اللجوء الى السلاح في ظل نظام ديمقراطي يحكمه الدستور وتحدد مساراته صناديق الاقتراع؟.. ومن سوف يربح ومن سوف يخسر من هكذا صراع؟..
هذه التساؤلات وغيرها راحت تطرح نفسها بقوة في خضم اجواء التشنج والاحتقان والتهيوء والاستعداد المشوب بالخوف والقلق.
ومع انحسار فرص وامكانيات حل واحتواء قائمة طويلة من المشاكل والازمات بين بغداد واربيل تراكمت خلال الاعوام العشرة الماضية-علما ان بعض جذورها تعود الى عهد النظام السابق-فأن الحديث عن الخيارات السيئة، وكيفية مواجهتها وتجنبها بات الشغل الشاغل للاطراف التي ترى ان اللجوء الى منطق القوة من شأنه ان يأتي على التجربة الديمقراطية الحديثة العهد ويفتح الباب واسعا لمسلسل دموي جديد من الصعب التنبوء بحدوده ومدياته ومعطياته.
النقطة المهمة في التداعيات الاخيرة هي ان الصراع الذي كان محصورا بين ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي من جهة، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني من جهة اخرى، اتسع نطاقه وراح يتخذ صيغة الصراع الكردي-العربي، بعد توحد مواقف كل من حزبي البارزاني والطالباني ومعهما القوى الكردية الاخرى، وبعد ظهور اصوات عربية مؤيدة وداعمة لتصعيد الموقف من قبل المالكي ضد الاكراد.
هذا التحول يعني فيما يعنيه اختلاط الاوراق بدرجة اكبر وتعقد سبل ومسارات الحل، واتساع الهوة بين الفرقاء الى حد كبير.
ومن الخطأ ان يدعي اي طرف ان مايحصل حاليا من تداعيات يعد امرا مفاجئا وغير متوقع، اذ ان مؤشرات تصاعد الازمة لاحت في الافق منذ شهر شباط-فبراير حينما فتح الاقليم ابوابه لنائب رئيس الجمهورية المطلوب قضائيا طارق الهاشمي، وهي خطوة اعتبرها المالكي استفزازية الى حد كبير، في الوقت الذي تساءل الاكراد قائلين "ومن سمح للهاشمي بمغادرة بغداد في وضح النهار؟".
وبعد قضية الهاشمي ظهرت قضايا اخرى من قبيل العقود النفطية التي ابرمها الاقليم مع عدة شركات نقط اجنبية من بينها شركة "اكسون موبيل" الاميركية العملاقة، ومن ثم اقدام الاكراد على تشكيل مجلس الوطني للاقليم، وتقوية وتعزيز العلاقات مع تركيا في الوقت الذي وصلت العلاقات بين انقرة وبغداد الى اسوأ مستوياتها، وبعد ذلك قيام الحكومة بتحريك قطعات عسكرية بأتجاه الحدود العراقية السورية في مناطق محاذية لاقليم كردستان وهو مااعتبره الاكراد اجرءا موجها ضدهم الامر الذي دفعهم الى تحريك تشكيلات من قوات البيشمركة الكردية لمنع القطعات التابعة للجيش العراقي من اتخاذ مواقع "حساسة واستفزازية" لهم.
وفي خضم تلك القضايا كان التلاسن الكلامي على اشده، فعلى صعيد مجلس النواب، برز نواب من ائتلاف دولة القانون مثل ياسين مجيد وعلي الشلاه وغيرهم يتهجمون على الاكراد وبالتحديد على رئيس الاقليم مسعود البارزني وفي الجانب الاخر تصدى لهم نواب من التحالف الكردستاني فرهاد الاتروشي وخالد شواني واخرين غيرهم، بل واكثر من ذلك دخل كل من البارزاني والمالكي على خط المهاترات الكلامية الحادة، ناهيك عن ما كان ينشر في وسائل اعلام محسوبة على الطرفين ضد احدهما الاخر من سيناريوهات تسقيطية فضائحية.
وهكذا كان الخط البياني للازمة يتصاعد بوتائر سريعة، حتى انه لم يعد هناك من يأمل بحدوث انفراج حقيقي للازمة.
ولايمكن اليوم القول بأي حال من الاحوال ان جوهر الازمة يتمثل بتشكيل قيادة عمليات دجلة في المناطق المتنازع عليها وايكال قيادتها الى شخص-هو اللواء الركن عبد الامير الزيدي-يقال انه شارك في حملات الانفال ضد الاكراد اواخر الثمانينات وانه مشمول بأجراءات المساءلة والعدالة، بل ان تشكيل قيادة علميات دجلة ربما كان بمثابة القشة التي قصمت-او ستقصم عن قريب-ظهر البعير.
وبينما يتحدث اصحاب الشأن والقرار وفي مقدمتهم رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة نوري المالكي من ان وجود قيادة العمليات المذكورة امر مهم جدا لمواجهة التمدد الكردي، وكبح جماح المطامح والمطامع الكردية بالتوسع والاستحواذ على كركوك ومناطق اخرى متنازع عليها، وصفها رئيس حكومة الاقليم نيجرفان البارزاني مؤخرا بـ"المناطق المستقطعة من الاقليم"، وانه يأتي في سياق الدستور وضمن صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة والحكومة الاتحادية، فأن الاكراد يرون في تلك الاجراءات عودة وتكرارا للاساليب التي كان يتبعها النظام السابق في العراق بحقهم، ويؤكدون انهم لن يتنازلوا ولن يخضعوا، والبيان الذي اصدره رئيس الاقليم قبل ايام قلائل ودعا فيها الاكراد الى التهيوء والاستعداد للدفاع عن الاقليم مثل اشارة واضحة الى واحد من اخطر الخيارات، يضاف الى ذلك اشارة اخرى تعززها، وهي تحشيد اعداد كبيرة من قوات حرس الاقليم والبيشمركة على طول نقاط التماس في المناطق المتنازع عليها، وتشكيل غرفة عمليات مشتركة بين الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني واحزاب كردية اخرى.
وفي الجانب الاخر فأن مشهد الاستفزاز والتعبئة والتحشيد-كلاميا وميدانيا-لم يكن يختلف كثيرا، فقد صدرت من بغداد تحذيرات شديدة اللهجة للقوات الكردية من مغبة التعرض لقوات الجيش التابع للحكومة الاتحادية، وتم تحريك قطعات عسكرية عديدة في مناطق التماس، رافقها تحركات واتصالات مع مكونات عربية معارضة للتواجد والنفوذ الكردي في كركوك ومدن ومناطق اخرى كالموصل وطوزخورماتو وكلار وخانقين.
وسواء كان التصعيد بسبب سوء فهم او سوء تقدير لطبيعة وحساسية الموقف فأن النتائج ستكون واحدة في حال لم يتم احتواء الامور والسيطرة عليها من قبل الطرفين.
ولاشك ان الطرفين يدركان تبعات التصعيد والتأزيم، ولكن في ذات الوقت يفرض انعدام الثقة وتراكم المشاكل والازمات بينهما انسياقا وراء سياسة لي الاذرع وفرض الامر الواقع من دون ادراك ان هذا الانسياق يدفع بالجميع الى حافة الهاوية، وهذا الاتجاه في حال اوصل الى خيار استخدام القوة، او الى تدخل قوى واطراف خارجية، او في افضل الاحوال بقاء الامور على ما هي عليه الان، فأنه لايعني نزعا لفتيل الازمة بالمرة او انتهائها بطريقة ما.
ورغم تعقد الامور وتأزمها الى حد كبير وسير طرفي النزاع الى حافة الهاوية، فأن خيار اللجوء الى القوة العسكرية على نطاق واسع مازال بعيدا نوعا ما، لكن ما هو غير بعيد انسداد الافق السياسي بدرجة اكبر وتراكم ملفات التقاطع والخلاف، فالمادة ١٤٠ ستبقى معلقة، ومشروع قانون ترسيم الحدود الادارية بين المحافظات لن يجد السبيل للتشريع، واقرار الموازنة سيتلكأ طويلا، ومن ثم اتساع الهوة الى مستوى يكون فيه من الصعب بمكان جمع الفرقاء تحت سقف واحد او حول طاولة واحدة، وكل ذلك لابد ان يلقي بظلاله على اهم واخطر ملفين وهما الامن والخدمات.