قلت.. كيف يحكم التخلف منطقة ابتكرت الابجدية.. وعرفت ارقى الحضارات.. والشرائع السماوية.. والوضعية.. وطورت العلوم والمعارف
التي دُرست في الجامعات الاوروبية لمطلع القرن العشرين.. فهل السبب تغير طرق التجارة الدولية.. واكتشافات العالم الجديد.. ومناجم الذهب.. وتفوق الغرب علمياً وعسكرياً وادارياً ليفرض هيمنته؟ فاذا كان كذلك، فلماذا استطاعت الصين والهند –مثلاً- التعلم من مستعمريهم ليهزما الهيمنة ويقلبا الموازين مجدداً؟ ام السبب الدين؟ فكيف يشخص عالم كمكسيم رودنسون (الاسلام والراسمالية) بان الدولة العباسية امتلكت (القرن ١١م) وقبل بريطانيا بقرون كافة شروط الانتقال للراسمالية، كتراكم الثروات.. والاجراء الاحرار.. والمانيفكتورة ونظم العمل والانتاج.. والاسواق الكبيرة. فالاسلام لم يمنع محمد علي باشا من قيادة نهضة كادت تضع مصر في المكانة التاريخية لليابان.. ولم يمنع علماء كالكواكبي (طبائع الاستبداد) والافغاني وعبده (العروة الوثقى) من مشاريعهم النهضوية والدستورية ومواجهة الاستبداد.. والتي توجت "بالمشروطة والمستبدة" لمرجع كبير كالنائيني.
لماذا تخلفت منطقتنا اذن ؟ لعلها الكبوة ذاتها –فحرمتنا من اسلام يعيش عصره- وغرست فكراً يمزق الشعوب بين التشبث بمظاهر التخلف بلا وعي، فرض الجديد بدون اسس.. فانتصرت معادلة حاكمة طرفيها.. المظلة الاجنبية وقمع الدولة. فبدل مواجهة التطورات –كالصين والهند وبلدان اسلامية- بالارتكاز لثنائي "الاستمرارية والانقطاع"، اخترق الحكومات والشعوب والحركات (علمانية وقومية ودينية) فهم احادي. وذهب الجميع اما "للانقطاع"، فالتغرب والانفصال عن الجذور.. او "الاستمرارية"، فالانكفاء في الماضي والتخلف عن الحاضر والمستقبل. فعاشت شعوبنا قرناً من المآسي.. تخلله الصراع على الممرات والنفط.. وصعود القوتين العظميين السوفياتية والامريكية، وقيام اسرائيل.. وازدياد محورية الجيوش والانقلابات، والخصومات الاقليمية، وحكومات الاستبداد وسلب الحقوق.
زالت كوابح كثيرة، بعد تفكك السوفيت وتراجع الامريكان وفشل الدولة.. فتفجر الربيع العربي، وكأنه يرجعنا قرناً، لانجاز ما لم ينجز.. لتستعيد الشعوب مكانتها الحاكمة، عبر دساتير وعقود تأسيسية تنظم توجهاتها.
ان الخطر اليوم -امام الانتفاضات- ليس السلطات المتهرئة السابقة فقط، بل ،اساساً، استغلال الفراغ من سلطات الاحزاب والجيوش، التي لم تحرر نفسها بعد من الفهم الاحادي، مهددة باعادة انتاج التخلف والاستبداد.
عادل عبد المهدي
افتتاحية جريدة العدالة العراقية ليوم ١٣-١٢-٢٠١٢