ولعل الحديث القدسي يشير الى مكانة الصيام في ضيافة الله سبحانه وتعالى وفي لطف الله حيث جاء في الحديث " الصوم لي وأنا اجزي به " الله سبحانه وتعالى ينسب الصوم لذاته المقدسة ويعتبره شانا من اختصاصاته جل وعلا حينما يجري الحديث عن الصلاة الاية الشريفة تذكر بسم الله الرحمن الرحيم " أقم الصلاة لذكري "الذكر هو الهدف والصلاة وسيلة لتحقيق ذلك الهدف , حينما ياتي الحديث عن الحج ياتي قول الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم " ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا " يجب اداء الحج والنقطة واضحة والفرق كبير بين الصوم لي وبين لله على الناس حج البيت , اقم الصلاة لذكري وهذه خصوصية نجدها في الصيام "وانا اجزي به" الله سبحانه وتعالى يقول الجزاء مباشر في الصيام ولا اكلف من يجزي ومن يقدم العطاء وانا اجزي به , الذات المقدسة هي التي تقدم العطاء الجزيل في قضية الصيام ولعله على غرار ما ورد في سورة الإنسان عن بعض اهل الجنة من ذوي المقامات الرفيعة " وسقاهم ربهم شرابا طهورا " سقاهم" الله يسقيهم ولايؤمر بان يسقون وهذا البعد المباشر فيه دلالة كبيرة على اهمية الصوم وبعض العرفاء قراها مبنية للمجهول "الصوم لي وانا اجزى به أي انا جزاء الصائمين , الله سبحانه وتعالى يقول وذاته ولقاؤه والفناء فيه هذا هو جزاء الصائم , الله جزاؤه , وهذا سيكون ذات مداليل اعمق مما لو قراناه مبنيا للمعلوم , الصيام هو الامساك عن الطعام والشراب والصيام هو الوصول الى حالة من الطهارة القلبية التي تجعل القلب منصرفا نحو الله سبحانه وتعالى عما سواه , ينصرف القلب عما سوى الله ويتوجه نحو الله سبحانه وتعالى فيما يطلق عليه في ادبيات اهل البيت " بالانقطاع الى الله " الهي هب لي كمال الانقطاع اليك وانر ابصار قلوبنا بضياء نظرها اليك حتى تخرق ابصار القلوب حجب النور فتصل الى معدن العظمة وتصير ارواحنا معلقة بعز قدسك " حالة الانقطاع والاتصال بالله جل وعلا انما تتحقق في الاهداف السامية للصيام وعبر الطهارة القلبية الحاصلة في الصيام , طبعا هذا الانقطاع له مراتب وهناك امساك لعامة الناس هو امساك عن الطعام والشراب ولكن لايرقى ليكون امساكا للجوارح وللاعضاء عن المعصية , فهو صائم وممسك ولكن يرتكب بعض الذنوب والمعاصي لاقدر الله , هذا الصوم صوم عامة الناس , امساك عن المفطرات بمعناها الفقهي الوارد في الرسائل العملية , وهذا يقيمه رسول الله (ص) في قوله " كم من صائم ليس له من صيامه الا الجوع والظمأ " وهناك مرتبة اعلى "صيام الخواص "وهو ان يتحول الامساك الى ماهو ابعد من الامساك عن الطعام والشراب والمفطرات وهو امساك الجوارح والاعضاء عن معصية الله وعن الذنوب والمعاصي في شهر رمضان , وهذه حالة متطورة يشير اليها رسول الله (ص ) في اخر خطبة له في شهر شعبان وهو يتحدث عن حلول شهر رمضان حيث يقول " واحفظوا السنتكم " حفظ اللسان من معطيات ومن اثار الصوم " وغضوا عما لايحل عليه النظر ابصاركم " غض النظر عن الحرام وعدم النظر وعدم الاستماع وعدم الحديث بمعنى ان كل هذه الأعضاء والجوارح تكون ممسكة ," أيها الناس من حسن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جواز على الصراط" حسن الخلق اذن هذا الامساك يترك اثار في سلوك الإنسان وفي اداء الإنسان وفي حركات وسكنات الإنسان فهو "صوم الخواص ".
والمرتبة الثالثة هي مرتبة صوم " اخص الخواص "
حينما يمسك الإنسان فكره وذهنه وقلبه عن الخطورات القلبية السلبية والخاطئة , لايفكر بشيء سلبي , يخلي قلبه عما سوى الله لينفتح القلب على الله سبحانه وتعالى فلا يجد في قلبه الا النور الالهي والا الالتفات والانقطاع الى الله جل وعلا , هذا الصوم يوجد حالة من المناعة والحصانة من الوقوع في الحرام , وهي حالة من العصمة العملية وليست العصمة التي يرزقها الله سبحانه وتعالى للانبياء والاوصياء وللمعصومين وهذه عصمة عملية عملا لايقع الإنسان في الخطأ حينما يصل الى هذا المستوى من الحصانة , في الحديث القدسي في خطاب الله سبحانه وتعالى لموسى بن عمران , يرويه صاحب الوسائل في الجزء السابع " يا ابن عمران هب لي من قلبك الخشوع "كن خاشعا بين يدي الله في قلبك " ومن بدنك الخضوع ومن عينيك الدموع " اذا حصلت حالة خشوع القلب وخضوع الجسم ودموع العين ستجدني قريبا وستجدني الى جانبك وهذه هي الوسائل التي تدفع ماسوى الله وتجعل الإنسان منفتحا على الله سبحانه وتعالى , في دعاء الامام السجاد في الليال العشر الاخيرة من شهر رمضان " اللهم ارزقني " اذن هو رزق معنوي كما اننا نطلب الرزق المادي نطلب الرزق المعنوي " التجافي عن دار الغرور" الابتعاد عن دار الدنيا " والانابة الى دار الخلود والتعلق بالاخرة والاستعداد للموت قبل حلول الفوت , كيف يمكن للانسان ان يبتعد عن الدنيا فالدنيا كما يذكر علي عليه السلام " الدنيا تغر وتضر وتمر " الدنيا فيها ضرر اذا لم يحسن الإنسان الاستفادة منها ومن طيباتها دون الوقوع في محرماتها , تغر ودار الغرور , وتضر أي دار يقع الاضرار بالانسان وبمستقبله المعنوي اذا لم يلتفت ولم ينظم ايقاعات سلوكه ," وتمر "أي تمر مر السحاب والانسان برمشه عين تمر عشر سنوات وعشرين وخمسين ويجد نفسه في لحظة تسليم نفسه الى الله والانتقال الى الله سبحانه وتعالى ,
سئل امير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه عن الاستعداد للموت , قبل حلول الفوت , الاستعداد للموت كيف يكون ؟ فقال عليه السلام " اداء الفرائض واجتناب المحارم والاشتمال بالمكارم " ان لايرتكب الإنسان الحرام وان يلتزم بالفعل الواجب وان يتحلى بالمكارم الاخلاقية , هذه القضايا الثلاث المعالم الثلاث في وجود الإنسان هي التي تضمن له حالة الاستعداد للموت والانتقال الى الرحمة الالهية .